واخترع المصريون حروف الهجاء وكانت تصويرية أولا، ثم اختصرت الصور حتى صارت تؤدي ما تؤديه لنا حروف الهجاء، وقد اتجهت حضارة مصر نحو الشمال والشرق فشاعت الحروف المصرية؛ ولذلك نراها الآن في آثار جزيرة كريت بتعديل طفيف جدا لا ينكر أصلها المصري، وكما أخذ الكريتيون هذه الحروف من مصر كذلك أخذوا صناعة الفخار فنقلوا الطريقة المصرية في صنع الآنية حوالي سنة 2700 قبل الميلاد.
حروف هيروغليفية مصرية «باليسار» نقلها سكان جزيرة كريت «باليمين» مع تنقيح طفيف.
وقد يمكن القارئ أن يعترض هنا فيقول بعكس ما يقوله الأستاذ برستد، وهو أن مصر نقلت صنع الخناجر المعدنية من أوروبا ونقلت حروف الهجاء وصنع الآنية من جزيرة كريت، ولكن هذا الاعتراض مردود؛ وذلك لأن للكتابة الهيروغليفية المصرية أصلا مصريا واضحا يتفق واللغة المصرية القديمة، ولكنه لا يتفق واللغات الأخرى التي استعملت هذه الحروف، ثم إن تقدير الآثار يدل على السابق والمسبوق فيها دع عنك السذاجة التي نراها في المخترعات لأول اختراعها، ثم ما يطرأ عليها من تنقيح بالانتقال من قطر إلى آخر.
والإسفنكس الذي يسميه العامة «أبو الهول» من أقدم الآثار المصرية، وهو شيء مألوف في الكرنك، وهو حيوان له وجه إنسان، فعند أهرام الجيزة نرى الإسفنكس الكبير وأقدم الإسفنكسات وهو أسد له وجه إنسان، وفي الكرنك نرى كباشا لها وجوه إنسانية وأحيانا نجد للإسفنكس جناحا فيجمع بين الدابة والطائر والإنسان، وقد أعجب القدماء بهذه الفكرة واعتقدوا أن الإسفنكس حقيقة لها وجود وقد دخل في ثقافة الإغريق، وكان هؤلاء يصنعونه بوجه امرأة وجسم حيوان، يعرض للناس ثم يلقي عليهم أحجية أي لغزا شاقا فإذا لم يحلوه خنقهم، ولا بد أنه كان للإسفنكس المصري دلالة دينية؛ فإننا نجد للآن معبدا حسنا قريبا منه عند الأهرام، وقد أخذه الفينيقيون والحيثيون والأشوريون وصاروا يزينون به الأثاث يصنعونه من العاج ويضعونه على طرف المائدة أو الكرسي.
باليسار زهريات مصرية من الحجر وباليمين زهريات صنعت في كريت نقلا عن المصري.
وقد كان المصريون أول من عرفوا صناعة الزجاج وعنهم نقلته الأمم الأخرى، وما تزال آنيتهم تشهد بعبقريتهم في الصناعة، وقد كانوا يصنعون الآنية من الفخار النيئ أو المصهور، أو كانوا ينقرونها نقرا في الحجر إذا كانت من المرمر العادي أو المرمر الشفاف «الألبستر» أو كانوا يصنعونها من الزجاج، وقد شاعت الآنية على الطراز المصري عند الأمم الأخرى لأنها نقلت عنه.
إسفنكس صنع في أشور على الطريقة المصرية.
قماقم للعطور من الزجاج، باليسار قمقم مصري وبالوسط قمقم بابلي وباليمين قمقم وجد في إيطاليا الشمالية، وكلها منقولة عن الطراز المصري.
وإذا شئنا أن نقول في أي شيء برع المصريون وتفوقوا على غيرهم من الأمم، فالجواب أنهم برعوا في الصناعة عامة وفي صناعة البناء والنحت خاصة، وقد أخذت الأمم ذلك عنهم، وقد وجد المصريون من وثنيتهم وتعدد آلهتهم أعظم ما يغري على بناء المعابد ونحت التماثيل، ولم يمت النحت ولم ينقرض المثالون إلا بعد التوحيد المسيحي والتوحيد الإسلامي، وكلاهما جعل من التمثال صنما يجب هدمه. وقد استطاع الأثريون أن يجدوا في تاريخ النحت الإغريقي ذلك الأساس المصري الذي قام عليه؛ فإن التماثيل الأولى صنعت على غرار التماثيل المصرية فكانت نقلا صريحا لم تتخلص من الفن المصري إلا بعد تنقيحات كبيرة، فمصر ألهمت العالم صناعة النحت وألهمت الإغريق هذه الصناعة الفريدة التي تفوقوا فيها وتوخوا منها الجمال، بينما المصري كان يتوخى الحقيقة والعظمة الإلهية والهدوء الروحي، وقد ثبت أن الفن الهندي يرجع إلى إيحاء الإغريق الذين زرعوا بذرته في حملة الإسكندر المقدوني على الهند، وانتشرت هذه الصناعة من الهند إلى أنحاء آسيا بل انتقلت بعد ذلك إلى القارة الأمريكية.
باليمين تمثال مصري قديم وباليسار تمثال إغريقي صنع على غرار المصري يحاكي وضعه في جميع الأعضاء.
صفحة غير معروفة