مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح
الناشر
دار الفكر
رقم الإصدار
الأولى
سنة النشر
١٤٢٢هـ - ٢٠٠٢م
مكان النشر
بيروت - لبنان
- الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا يَخْلُو عَنْ وِجْدَانِ شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْمَحَبَّةِ الرَّاجِحَةِ، وَإِنِ اسْتَغْرَقَ بِالشَّهَوَاتِ وَحُجِبَ بِالْغَفَلَاتِ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ؛ بِدَلِيلِ أَنَّا نَرَى أَكْثَرَهُمْ إِذَا ذُكِرَ ﷺ اشْتَاقَ إِلَى رُؤْيَتِهِ، وَآثَرَهَا عَلَى أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَوَالِدِهِ، وَأَوْقَعَ نَفْسَهُ فِي الْمَهَالِكِ أَوِ الْمَخَاوِفِ مَعَ وِجْدَانِهِ مِنْ نَفْسِهِ الطُّمَأْنِينَةَ بِذَلِكَ وِجْدَانًا لَا تَرَدُّدَ فِيهِ، وَشَاهِدُ ذَلِكَ فِي الْخَارِجِ إِيثَارُ كَثِيرِينَ لِزِيَارَةِ قَبْرِهِ الشَّرِيفِ، وَرُؤْيَةِ مَوَاضِعِ آثَارِهِ عَلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ؛ لِمَا وَقَرَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ مَحَبَّتِهِ غَيْرَ أَنَّ قُلُوبَهُمْ لَمَّا تَوَالَتْ غَفَلَاتُهَا وَكَثُرَتْ شَهَوَاتُهَا كَانَتْ فِي أَكْثَرِ أَوْقَاتِهَا مُشْتَغِلَةً بِلَهْوِهَا ذَاهِلَةً عَمَّا يَنْفَعُهَا، وَمَعَ ذَلِكَ هُمْ فِي بَرَكَةِ ذَلِكَ النَّوْعِ مِنَ الْمَحَبَّةِ، فَيُرْجَى لَهُمْ كُلُّ خَيْرٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَا شَكَّ أَنَّ حَظَّ الصَّحَابَةِ ﵃ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى أَتَمُّ؛ لِأَنَّهُ ثَمَرَةُ الْمَعْرِفَةِ، وَهُمْ بِقَدْرِهِ وَمَنْزِلَتِهِ أَعْلَمُ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: فِي الْحَدِيثِ تَلْمِيحٌ إِلَى صِفَةِ النَّفْسِ الْمُطْمَئِنَّةِ وَالْأَمَّارَةِ، فَمَنْ رَجَحَ جَانِبُ نَفْسِهِ الْمُطْمَئِنَّةِ كَانَ حُبُّهُ ﵊ رَاجِحًا، وَمَنْ رَجَحَ جَانِبُ نَفْسِهِ الْأَمَارَةِ كَانَ بِالْعَكْسِ اهـ. وَاللَّوَّامَةُ حَالَةٌ بَيْنَهُمَا مُتَرَتِّبَةٌ عَلَيْهِمَا، وَلِذَا لَمْ يَذْكُرْهَا مَعَهُمَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، قَالَ النَّوَوِيُّ: مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَنَّ مَنْ مَاتَ مُوَحِّدًا دَخَلَ الْجَنَّةَ قَطْعًا عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَإِنْ كَانَ سَالِمًا عَنِ الْمَعَاصِي كَالصَّغِيرِ، وَالْمَجْنُونِ الَّذِي اتَّصَلَ جُنُونُهُ بِالْبُلُوغِ، وَالتَّائِبِ تَوْبَةً صَحِيحَةً مِنَ الشِّرْكِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْمَعَاصِي إِذَا لَمْ يُحْدِثْ بَعْدَ تَوْبَتِهِ، وَالْمُوَفَّقُ الَّذِي مَا لَمَّ بِمَعْصِيَةٍ قَطُّ - فَكُلُّ هَذَا الصِّنْفِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَلَا يَدْخُلُونَ النَّارَ أَصْلًا، لَكِنَّهُمْ يَرِدُونَهَا عَلَى الْخِلَافِ الْوَارِدِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُرُورُ عَلَى الصِّرَاطِ، وَهُوَ جِسْرٌ مَنْصُوبٌ عَلَى ظَهْرِ جَهَنَّمَ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْهَا، وَأَمَّا مَنْ كَانَتْ لَهُ مَعْصِيَةٌ كَبِيرَةٌ وَمَاتَ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ فَهُوَ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى؛ إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ بِالْقَدْرِ الَّذِي يُرِيدُهُ سُبْحَانَهُ ثُمَّ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، فَلَا يَخْلُدُ فِي النَّارِ أَحَدٌ مَاتَ عَلَى التَّوْحِيدِ وَلَوْ عَمِلَ مِنَ الْمَعَاصِي مَا عَمِلَ، كَمَا لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ مَاتَ عَلَى كُفْرٍ وَلَوْ عَمِلَ مَا عَمِلَ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الَّذِي تَظَاهَرَتْ عَلَيْهِ أَدِلَّةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ بِحَيْثُ حَصَلَ الْعِلْمُ الْقَطْعِيُّ، فَإِنْ خَالَفَهُ ظَاهِرُ حَدِيثٍ وَجَبَ تَأْوِيلُهُ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ.
٨ - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ": «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ؛ مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَمَنْ أَحَبَّ عَبْدًا لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَمَنْ يَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
٨ - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَنَسٍ [قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ)]: مُبْتَدَأٌ، وَالشَّرْطِيَّةُ خَبَرٌ، وَجَازَ مَعَ أَنَّهُ نَكِرَةٌ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: خِصَالٌ ثَلَاثٌ. قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: مِثَالُ الِابْتِدَاءِ بِنَكِرَةٍ هِيَ وَصْفُ قَوْلِ الْعَرَبِ: ضَعِيفٌ عَاذَ بِحَرْمَلَةَ. أَيْ: إِنْسَانٌ ضَعِيفٌ الْتَجَأَ إِلَى ضَعِيفٍ، وَالْحَرْمَلَةُ: شَجَرَةٌ ضَعِيفَةٌ. أَوْ ثَلَاثُ خِصَالٍ، وَالتَّنْوِينُ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ هَذَا فِي غَيْرِ كُلٍّ وَبَعْضٍ، أَوْ تَنْوِينُهُ لِلتَّعْظِيمِ، فَسَاغَ الِابْتِدَاءُ بِهِ، وَيَجُورُ أَنْ تَكُونَ الشَّرْطِيَّةُ صِفَةً لِثَلَاثٍ، وَيَكُونُ الْخَبَرُ مَنْ كَانَ، وَالْمَعْنَى: ثَلَاثٌ مَنْ وُجِدْنَ أَوِ اجْتَمَعْنَ فِيهِ. [(وَجَدَ)]، أَيْ: أَدْرَكَ وَصَادَفَ وَذَاقَ [(بِهِنَّ)] أَيْ بِسَبَبِ وُجُودِهِنَّ فِي نَفْسِهِ [(حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ)] أَيْ لَذَّتَهُ وَرَغْبَتَهُ. زَادَ النَّسَائِيُّ: وَطَعْمُهُ. وَأُوثِرَتِ الْحَلَاوَةُ لِأَنَّهَا أَظْهَرُ اللَّذَّاتِ الْحِسِّيَّةِ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ إِذَا دَخَلَتْ قَلْبًا لَا تَخْرُجُ مِنْهُ أَبَدًا، فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى بِشَارَةِ حُسْنِ الْخَاتِمَةِ لَهُ، وَقِيلَ: مَعْنَى حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ اسْتِلْذَاذُ الطَّاعَاتِ وَإِيثَارُهَا عَلَى جَمِيعِ الشَّهَوَاتِ وَالْمُسْتَلَذَّاتِ وَتَحَمُّلُ الْمَشَاقِّ فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتَجَرُّعُ الْمَرَارَاتِ فِي الْمُصِيبَاتِ، وَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ، وَفِيهِ تَلْمِيحٌ إِلَى الصَّحِيحِ الَّذِي يُدْرِكُ الطُّعُومَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ وَالْمَرِيضِ الصَّفْرَاوِيُّ الَّذِي بِضِدِّهِ إِذْ يَجِدُ طَعْمَ الْعَسَلِ مِنْ نَقْصِ ذَوْقِهِ بِقَدْرِ نَقْصِ صِحَّتِهِ، فَالْقَلْبُ السَّلِيمُ مِنْ أَمْرَاضِ الْغَفْلَةِ، وَالْهَوَى يَذُوقُ طَعْمَهُ وَيَتَلَذَّذُ مِنْهُ وَيَتَنَعَّمُ بِهِ كَمَا يَذُوقُ الْفَمُ طَعْمَ الْعَسَلِ وَغَيْرِهِ مِنْ لَذِيذِ الْأَطْعِمَةِ وَيَتَنَعَّمُ بِهَا، بَلْ تِلْكَ اللَّذَّةُ الْإِيمَانِيَّةُ أَعْلَى، فَإِنَّ فِي جَنْبِهَا يُتْرَكُ لَذَّاتُ الدُّنْيَا بَلْ جَمِيعُ نَعِيمِ الْأُخْرَى، [(مَنْ كَانَ)]: لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهُ - عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ - إِمَّا بَدَلٌ، أَوْ بَيَانٌ، أَوْ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ: هِيَ أَوْ هُنَّ أَوْ إِحْدَاهَا، وَعَلَى الثَّانِي خَبَرٌ أَيْ: مَحَبَّةُ مَنْ كَانَ [(اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ)]: بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ وَإِفْرَادُهُ لِأَنَّهُ وُصِلَ بِمَنْ، وَالْمُرَادُ الْحُبُّ الِاخْتِيَارِيُّ الْمَذْكُورُ (مِمَّا سِوَاهُمَا)]: يَعُمُّ ذَوِي الْعُقُولِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمَالِ، وَالْجَاهِ، وَسَائِرِ الشَّهَوَاتِ وَالْمُرَادَاتِ، وَقَدْ
1 / 74