171

مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح

الناشر

دار الفكر

رقم الإصدار

الأولى

سنة النشر

١٤٢٢هـ - ٢٠٠٢م

مكان النشر

بيروت - لبنان

بِعِلْمِهِ الْقَدِيمِ، وَأَنَّهُ لَا يُمَكِّنُ أَحَدًا أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ إِلَّا بِالنِّسْبَةِ لِجُزْئِيَّاتٍ مُعَيَّنَةٍ كَإِعْلَامِهِ ﵊ لِجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَى التَّعْيِينِ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. («ثُمَّ قَالَ لِلَّذِي فِي شِمَالِهِ: (هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ النَّارِ، وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ، وَقَبَائِلِهِمْ»): وَالْفَاسِقُ مَسْكُوتٌ عَنْهُ كَمَا هُوَ دَأْبُ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الْوَعْدِيَّةِ، وَالْوَعِيدِيَّةِ، لِيَكُونَ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ رَاضِيًا. بِمَا جَرَى عَلَيْهِ مِنَ الْقَضَاءِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ؛ لِأَنَّ مَآلَهُ إِلَيْهَا، وَإِنْ دَخَلَ النَّارَ فَإِنَّ الْخَاتِمَةَ هِيَ الْمَدَارُ عَلَيْهَا. («ثُمَّ أُجْمِلَ عَلَى آخِرِهِمْ، فَلَا يُزَادُ فِيهِمْ، وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ أَبَدًا») . فَقَالَ أَصْحَابُهُ): ﵃ («فَفِيمَ الْعَمَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كَانَ أَمْرٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ»): بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ يَعْنِي إِذَا كَانَ الْمَدَارُ عَلَى كِتَابَةِ الْأَزَلِ فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي اكْتِسَابِ الْعَمَلِ؟ (فَقَالَ: سَدِّدُوا) أَيِ: اجْعَلُوا أَعْمَالَكُمْ مُسْتَقِيمَةً عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ (وَقَارِبُوا) أَيِ: اطْلُبُوا قُرْبَةَ اللَّهِ تَعَالَى بِطَاعَتِهِ بِقَدْرِ مَا تُطِيقُونَهُ، وَالْجَوَابُ مِنْ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ؛ أَيْ: فِيمَ أَنْتُمْ مِنْ ذِكْرِ الْقَدَرِ وَالِاحْتِجَاجِ بِهِ، وَإِنَّمَا خُلِقْتُمْ لِلْعِبَادَةِ فَاعْمَلُوا، وَسَدِّدُوا، وَقَارِبُوا قَالَهُ الطِّيبِيُّ. وَقَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ: سَدِّدُوا أَيِ: الْزَمُوا السَّدَادَ، وَهُوَ الصَّوَابُ مِنْ غَيْرِ إِفْرَاطٍ وَتَفْرِيطٍ، وَقَارِبُوا أَيْ: إِنْ لَمْ تَسْتَطِيعُوا الْأَخْذَ بِالْأَكْمَلِ فَاعْمَلُوا بِمَا يُقَرِّبُ مِنْهُ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَقَارِبُوا فِي الْعِبَادَةِ، وَلَا تُبَاعِدُوا فَإِنَّكُمْ إِنْ بَاعَدْتُمْ فِي ذَلِكَ لَمْ تَبْلُغُوهُ، أَوْ مَعْنَاهُ سَاعِدُوا. يُقَالُ: قَارَبْتُ فَلَانًا إِذَا سَاعَدْتُهُ أَيْ: لِيُسَاعِدْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فِي الْأُمُورِ، وَحَاصِلُ الْجَوَابِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ -: نَفْيُ الْجَبْرِ، وَالْقَدَرِ، وَإِثْبَاتُ الْحُكْمِ بِاعْتِدَالِ الْأَمْرَيْنِ كِتَابَةُ الْأَزَلِ، وَسِرَايَةُ الْعَمَلِ، أَوْ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ أَمَارَاتٌ، وَعَلَامَاتٌ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهَا إِذْ لَا يَعْمَلُ اللَّهُ تَعَالَى بِمُجَرَّدِ عِلْمِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلِذَا قَالَ ﷺ: («فَإِنَّ صَاحِبَ الْجَنَّةِ يُخْتَمُ لَهُ»): بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ) أَيْ: بِعَمَلٍ مُشْعِرٌ بِإِيمَانِهِ، وَمُشِيرٌ بِإِيقَانِهِ، (وَإِنْ عَمِلَ) أَيْ: وَلَوْ عَمِلَ قَبْلَ ذَلِكَ (أَيَّ عَمَلٍ) مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ («وَإِنَّ صَاحِبَ النَّارِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ»): أَعَمُّ مِنَ الْكُفْرِ، وَالْمَعَاصِي (وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ) أَيْ: قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ (ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ) أَيْ: أَشَارَ (بِيَدَيْهِ)؛ الْعَرَبُ: تَجْعَلُ الْقَوْلَ عِبَارَةً عَنْ جَمِيعِ الْأَفْعَالِ، فَتُطْلِقُهُ عَلَى غَيْرِ الْكَلَامِ وَاللِّسَانِ، فَتَقُولُ قَالَ بِيَدِهِ أَيْ: أَخَذَ، وَقَالَ بِرِجْلِهِ أَيْ: مَشَى.
وَقَالَتْ لَهُ الْعَيْنَانِ سَمْعًا وَطَاعَةً ... وَحَدَّرَتَا كَالدُّرِّ لَمَّا يُثَّقَّبِ
أَيْ: أَوْمَأَتْ، وَقَالَ بِالْمَاءِ عَلَى يَدِهِ، أَيْ: قَلَبَ، وَقَالَ بِثَوْبِهِ أَيْ: رَفَعَهُ (فَنَبَذَهُمَا) أَيْ: طَرَحَ مَا فِيهِمَا مِنَ الْكِتَابَيْنِ؛ قِيلَ: وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَفِي الْأَزْهَارِ الضَّمِيرُ فِي نَبَذَهُمَا لِلْيَدَيْنِ؛ لِأَنَّ نَبْذَ الْكِتَابَيْنِ بَعِيدٌ مِنْ دَأْبِهِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ نَبْذَهُمَا لَيْسَ بِطَرِيقِ الْإِهَانَةِ، بَلْ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ نَبَذَهُمَا إِلَى عَالَمِ الْغَيْبِ، ثُمَّ هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ هُنَاكَ كِتَابٌ حَقِيقِيٌّ، وَأَمَّا عَلَى التَّمْثِيلِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى نَبَذَهُمَا أَيِ: الْيَدَيْنِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: قَوْلُهُ قَالَ بِيَدَيْهِ فَنَبَذَهُمَا. بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: «جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا أَنْتَ لَاقٍ»، كِنَايَةٌ عَنْ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ فَصَارَ كَمَا تُخَلِّفُهُ وَرَاءَ ظَهْرِكَ؛ فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ: ثُمَّ قَالَ: (فَرَغَ رَبُّكُمْ): تَفْسِيرًا لِهَذَا الْفِعْلِ، وَيَكُونُ نَتِيجَةً لِهَذَا الْكَلَامِ (مِنَ الْعِبَادِ): قَالَ الْأَشْرَفُ أَيْ: مِنْ أَمْرِ الْعِبَادِ، وَالْمُرَادُ بِالْأَمْرِ الشَّأْنُ؛ أَيْ: قَدَّرَ أَمْرَهُمْ لَمَّا قَسَّمَهُمْ قِسْمَيْنِ، وَقَدَّرَ لِكُلِّ قِسْمٍ عَلَى التَّعْيِينِ كَوْنَهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، أَوِ النَّارِ بِحَيْثُ لَا يَقْبَلُ التَّغْيِيرَ فَكَأَنَّهُ فَرَغَ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَإِلَّا فَالْفَرَاغُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ تَعَالَى ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾ [الشورى: ٧]: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ

1 / 173