فإلى أن تجد نفوس الشباب المصريين هذا الصياد الذي يخرجها من قماقمها، ويرد إليها الحرية، ويخلي بينها وبين الهواء والنور والجمال، تستمتع به، وتمتع به الأجيال ...
إلى أن يوجد هذه الصياد تستطيع أن تتحدث عن الذوق الفني المترف الرفيع، وعن تنشيئه في نفوس الشباب كما تشاء.
ويل الشجي من الخلي
عن أية عاطفة صدرت يا سيدي، حين كتبت إلي كتابك هذا الذي تلقيته من أيام، فلم أدر ماذا أصنع به، ولم أدر ماذا صنع بي! فلو قد استجبت للعواطف الأولى التي أثارها في نفسي، لمزقته تمزيقا، أو لحرقته تحريقا، أو لألقيته في سلة المهملات كما يقول الذين يتبذلون في الحديث.
ولكني أكره أن أستجيب للعواطف حين تجيش، وللغضب حيت يثور، فلم أمزقه، ولم أحرقه، ولم ألق به بين المهملات، وإنما تركته يوما ويوما، ثم عدت إلى قراءته، فلم يثر في نفسي إلا ما أثاره أثناء القراءة الأولى من الغضب، والحفيظة، والموجدة.
ويل الشجي من الخلي ... إنك لرجل ناعم البال، قرير العين، مطمئن القلب، هادئ النفس، مستريح الضمير، تكتب إلى قوم ليس لهم من هذا كله حظ قليل أو كثير؛ فهم مروعون مفزعون، قد شمل القلق نفوسهم، وملأ الحزن قلوبهم، وشاعت الكآبة في ضمائرهم، حتى ضاقوا بالحياة، وضاقت بهم الحياة، وشتان ما حال المقيمين فيما وراء البحر، تبتسم لهم الشمس المشرقة، ويبتسمون لها، ويحنو عليهم الليل الهادئ، ويطمئنون إليه، لا تشغلهم بين ذلك أحداث النهار ولا خواطر الليل، وإنما هم يستقبلون حياة رائقة شائقة، قد فرغوا فيها لأنفسهم، وفرغت فيها أنفسهم لهم. فهم يمرحون، ويفرحون، ويسرحون، ويروحون ... قد أمنوا كل كيد، واعتصموا من كل مكروه.
ولست أزعم أن الحياة من حولك هادئة راضية، وناعمة باسمة، فإن الهدوء والرضى والنعيم والابتسام أمور لا تتاح الآن لكثير من الشعوب، ولكنك تعيش غريبا فيما وراء البحر، قد بعدت عن وطنك فلم تشارك أهله فيما يجدون من البؤس والشقاء ومن الخوف والإشفاق، ومن القلق والاضطراب، وبعدت عن مضيفيك؛ لأنك غريب بينهم، لا تشاركهم في ألم ولا أمل، ولا تشاطرهم نعيما ولا شقاء، وإنما أنت قريب منهم بعيد عنهم، تنعم بما عندهم من نعيم، وتتجافى عما عندهم من بؤس وشقاء.
فأنت الرجل الحر الطليق، وأنت الرجل الموفق السعيد، يأتيك المال كثيرا موفورا من مصر، ويأتيك النعيم كثيرا موفورا من فرنسا؛ لأنك تقدر بالمال المصري الذي لا يجده أكثر المصريين، على أن تحصل من النعيم الفرنسي ما لا يجده أكثر الفرنسيين، فأنت ناعم على رغم المصريين والفرنسيين جميعا، يستخرج لك المال المصري من شقاء مواطنيك، ويستخرج لك النعيم الفرنسي من شقاء مضيفيك ... وأنت مع ذلك ساخط على أولئك وهؤلاء، لا ترضى عما يجري هنا، ولا تطمئن إلى ما يجري هناك، تنكر المصريين لأنهم لم يبلغوا في رقيهم المادي والعقلي ما بلغ الفرنسيون، ولأنهم لا يستطيعون أن يوفروا لك من وسائل الترف والدعة والأمن ما يوفره لك الفرنسيون.
وأنت من أجل ذلك تهجرهم، وتهاجر من أرضهم، وتكتفي منهم بأن يزرع الزارع ، ويصنع الصانع، ويجوع الجائع، ويبتئس المبتئس، ويشقى الشقي، لتجتمع إليك ألوف من الجنيهات تتبعها ألوف، ولتحول لك هذه المقادير الضخمة من المال، ننفقها فيما يحب الله، وما لا يحب من وسائل الترف ... ومواطنوك في شظف من وسائل الراحة والنعيم، ومواطنوك في عناء وشقاء.
وتنكر الفرنسيين؛ لأنهم لا يخضعون للسلطان كما يخضع له مواطنوك، ولا يستكينون للقوة كما تعودت أن ترى الناس يستكينون لها من حولك في مصر، ولا يعبدون عجول الذهب كما تعودت أن ترى الناس يعبدون عجولا ذهبية كثيرة على ضفاف النيل، كما يقول جوت، إن أتاح لك الفراغ والعبث أن تقرأ ما قال جوت. ولكنك مع ذلك تسعى إلى فرنسا كلما أمكنتك الفرصة، وتقيم فيها ما طابت لك الإقامة. يكفيك من أهلها أن يأخذوا منك مالك الذي شقي المصريون ليرسلوه إليك، وأن يعطوك نعيمها الذي يشقى الفرنسيون ليتيحوه لك.
صفحة غير معروفة