يرى النقاد أن أبا العلاء لم يزد على أن تغزل كما تغزل الشعراء من قبله، ومن بعده فذكر دار حبيبته، وذكر المصاعب التي تقوم بينه وبين زيارتها، وترى أنت كما أرى أنا أن أبا العلاء لم يكن من الحب في شيء، وإنما رمز بدار حبيبته إلى مطامعه البعيدة، وآماله النائية، وإلى تلك العقبات التي تحول بينه وبين بلوغ المطالب، وتحقيق الآمال. فتنشيء الذوق الفني في نفوس الشباب يسير كل اليسر، ولكنه على ذلك عسير كل العسر، وهو قريب كل القرب، ولكنه على ذلك بعيد كل البعد، وأي شيء أيسر، وأقرب من أن تمنح الشباب ما يبنغي لهم من الحرية التي تتيح لهم أن يقبلوا، وأن يرفضوا، وأن يحبوا، وأن يبغضوا، وأن يفعلوا، وأن يتركوا حين يريدون هم لا حين يريد غيرهم، وغيرهم هذا كثير لا يكاد يحصى، منه التقليد الموروث الذي يفرض على الشباب أن يفكر، ويعبر، ويعمل، ويشعر كما تلقى ذلك عن أسرته، وعن بيئته لا كما تريد نفسه، ولا كما يريد طبعه أن يفكر، ويعبر، ويشعر، ويسير، ومنه التقليد الاجتماعي المكتسب الذي يفرض عليه أن يحيا كما يحيا الناس، ويحظر عليه أن ينفرد أو يشذ أو يأتي من الأمر ما يكره النظراء والأتراب، ومنه السلطان الذي يشرع القوانين قاسية مرهقة مقيدة، ثم يصطنع في إنفاذها وسائل أشد منها قسوة وإرهاقا وتقييدا.
حرر الشباب، قبل كل شيء، ولو تحريرا موقوتا من هذه القيود كلها أو بعضها. دعهم يفكرون كما يريدون، ودعهم يحيوا كما يريدون، وأرشدهم بالقدوة الصالحة، والأسوة الحسنة، والنصح الرفيق، وثق بأنك إن فعلت أعددت نفوسهم للذوق الفني الرفيع أحسن إعداد وأقومه.
إنك لتعلم أن الفن حرية قبل كل شيء؛ حرية واسعة إلى أبعد غايات السعة، حرية في نفس المنتج، وحرية في نفس المستهلك، كما يقول أصحاب الاقتصاد خذ من شئت من المبدعين في الفن، واستقص حياته فسترى أنه لم يبدع إلا لأنه شذ وانفرد وامتاز، وخرج على ما ألف غيره من القيود، وليس كل الناس ميسرا للفن، وليس كل الناس قادرا على التفوق والابتكار، ولكن من حق الناس جميعا أن تهيأ لهم الفرص، وتمد لهم أسباب التفوق والابتكار، وأول ما يجب لذلك أن يتاح للشباب، وللشباب خاصة ما ينبغي لهم من الحرية التي تفتح قلوبهم وعقولهم، وضمائرهم لكل ما في الحياة من خير وشر، ولكل ما في الحياة من حسن وقبح، ولكل ما في الحياة من حب وبغض، ليقبلوا على اختيار، لا عن اضطرار، وليحبوا ويبغضوا عن رضا لا عن إكراه، فإذا لم تتح لهم هذه الحرية، فلا تبتغ منهم خيرا، ولا ترج منهم نفعا، ولا تنتظر لهم تفوقا، ولا ابتكارا، وإنما انظر إليهم كما تنظر إلى الرقيق المسخرين، وإلى الحيوان الذي تدفعه غرائزه، ويحد من حريته سلطان المستأنسين له المنتفعين به، فيما يحاولون من المآرب والأغراض. إن الفن حرية لا رق ... فإذا أردت من الشباب أن يذوقوا الفن، ويسيغوه، ويحاولوه، ويبتكروه، فاجعلهم أحرارا؛ لأن الفن أثر من آثار الأحرار، لا من آثار العبيد. •••
أي شيء أيسر من أن تجعل الشباب أحرارا؟! إنك لتريد ذلك، وإني لأريده، ولكن أي شيء أعسر من أن تجعل الشباب أحرارا. إن التقاليد الموروثة، والتقاليد المستحدثة، وسلطان الحكومة، وسلطان الجماعة، وظروف الحياة كلها في هذا الوطن البائس تأبى على الشباب أن يكونوا أحرارا ... فأنشد معي إذن قول أبي العلاء:
فيا دارها بالكرخ إن مزارها
قريب ولكن دون ذلك أهوال
والتمس من العزائم، والطلاسم، والتمائم ما يحميك، ويحميني من هذه التهمة الكبيرة الخطيرة تهمة الميل إلى إفساد الشباب، وأي خطر على حياة الشباب في بلد كمصر أشد من أن تلتمس له هذه الحرية التي يستمتع بها الشباب في غير مصر من البلاد التي ألفت الحرية، فلم تستطع أن تتسلى عنها، ولا أن تزهد في ثمراتها الحلوة والمرة جميعا.
ثم لا تنس أنك لن تمنح الحرية للشباب حين تضع عنهم إصرهم والأغلال التي تثقلهم من التقاليد والظروف، فقد ينبغي أن يعيش الإنسان قبل أن يكون حرا، وقد ينبغي أن يعصم الإنسان من الحرمان ليعيش ... فحرر الشباب من البؤس، والجوع، وهم التفكير فيما يقيم الأود، وحررهم من الجهل، وأتح لهم علما، وأدبا، وثقافة، ويسر لهم بعد ذلك أن يعيشوا في جو سمح غير متحرج، ولا متزمت، وخل بينهم وبين الدنيا، وما فيها مما يسر، ومما يسوء، مما يحسن، ومما يقبح، مما يلذ، ومما يؤلم، وثق بأنهم سيحسون، ويشعرون، وثق بأنهم سيرضون، ويسخطون، وثق بأنهم سينعمون، ويبتئسون، وثق بأنهم سيستقبلون هذا كله بأنفسهم لا من طريق غيرهم، وثق بأنهم إن استقبلوا الحياة، ولذاتها، وآلامها، وخطوبها، وأحداثها، فسيصورون ما يستقبلون من ذلك، وسيعبرون عنه، وسيتأثرون به، وسيؤثرون فيه، وسيكون كل واحد منهم إنسانا حرا عاملا، وحيثما وجد الإنسان الحر العامل وجد الذوق الفني، ووجدت آثار الذوق الفني من الاستمتاع، والإمتاع جميعا. •••
أذهبت إلى الجامعة؟ أشهدت الشباب الجامعيين حين يختلفون إلى الدروس، ويستمعون إلى الأساتذة، وحين يتحدثون إلى أساتذتهم، وحين يتحدث بعضهم إلى بعض، أرأيت في هذا كله شيئا يشبه ما تعرف من شئون الشباب الجامعيين في البلاد الأجنبية الراقية؟ ألم تر إلى تزمت الأستاذ حين يلقي الدرس، وتزمت الطلاب حين يستمعون له؟ الدرس عبء ثقيل على الأستاذ يتخفف منه بإلقائه في غير حب ولا كلف ولا ذوق، والاستماع عبء ثقيل على الطلاب يتخففون منه، بإحصاء الدقائق، وانتظار الجرس الذي يرد إليهم ظلا من الحرية، ويخلي بينهم وبين الانطلاق إلى ما هم فيه من سخف الحديث، وفيما يتحدث البائسون في أشياء لا تتصل بالثقافة من قريب أو بعيد، في أشياء لا تتصل بالعلم، ولا بالفن، ولا بالذوق، وإنما تتصل بصغائر الأمور، وسفاسفها ... تتصل بالذات القريبة، والمنافع العاجلة، وقد تتصل بالسياسة فلا تمس إلا أدناها إلى السخف، وأبعدها عن الغناء، تتصل بهذه اليوميات التي لا تقدم، ولا تؤخر في حياة الجماعات، فإذا تركوا الجامعة فإلى الجهود الضائعة، والحياة الفارغة، إلى حرمان المحرومين، وشقاء الأشقياء، وصبر الصابرين على المكروه، ويأس اليائسين حتى من روح الله، فإذا أتيح لبعضهم شيء من اللهو، وفضل من المتاع، فأنت تعلم حيث يلتزمون ذلك، وأنت تعلم ما يكون بين ذلك وبين الذوق الفني المترف الرفيع من صلة، والخير كل الخير أن نطوي الحديث عنه طيا. •••
أذهبت إلى مدرسة الفنون الجميلة؟ أرأيت إلى النقش، والحفر، والتصوير، وغيرها من الفنون، تلقى الدروس فيها على الطلاب كما كانت تلقى عليهم دروس النحو والحساب، يدعوهم إليها الجرس، ويصرفهم عنها الجرس، ويشرف عليهم في أثنائها، وفيما بينها نظام دقيق قد رسمت له اللوائح، وبينت له الحدود ... فهم يسكنون بمقدار، ويتحركون بمقدار، وهم يسكتون بمقدار، ويتكلمون بمقدار، مدرسة عسكرية لا أكثر ولا أقل . فكيف تريد للذوق الفني المترف الرفيع أن ينشأ أو ينمو أو يمتاز في هذه البيئات التي لم تخلق إلا لتقتل الذوق أو لتفسده على أقل تقدير؟! وأي شيء أيسر من أن ترد إلى هذه البيئات في الجامعة، وفي مدرسة الفنون الجميلة، وفي معاهد التعليم كلها، شيئا من اليسر، والإسماح، ومن الدعة، والحرية، لأنك تريد ذلك، ولأني أريده، ولكن هيهات ... دون ذلك اللوائح، والقوانين، والأمن، والنظام، والخوف، والإغراق في الخوف. نفوس الشباب المصريين أشبه شيء بهذا العفريت الذي حبسه نبي الله سليمان في قمقم مطبق من النحاس الصفيق، وختم عليه بخاتمه، وأمر به فألقي في أعماق البحر، كما يحدثنا بذلك القاص في ألف ليلة وليلة. وأجسام الشباب المصريين هي هذه القماقم المطبقة الصفيقة، إلا أنها ليست من نحاس، وإنما هي من لحم ودم، والفرق بين هذه النفوس السجينة في قماقمها وبين ذلك العفريت، هو أن العفريت وجد الصياد الذي استخرج قمقمه من أعماق البحر، وفض عنه خاتمه، ورفع عنه غطاءه، وأتاح للعفريت أن يحدث عهدا بالهواء والنور والحرية. •••
صفحة غير معروفة