وغمرني فيض من الارتياح والفرح. ودخلت الحجرة عند ذاك المدام وهي تحتسي الشاي من قدح في يدها. جلست على حافة الفراش وهي تقص علي قصة أهل زهرة وكيف رفضت الفتاة العودة. وتساءلت بمكر كاذب: ألم يكن من الأفضل أن ترجع إلى أهلها؟
فابتسمت المدام ابتسامة قوادة عالمة ببواطن الأمور ثم قالت: أهلها الحقيقيون هنا يا مسيو سرحان.
تجنبت النظر إلى عينيها. تجاهلت مغزى قولها تماما. ولكني خمنت أن الفراشة تطير بالأنباء من حجرة إلى حجرة. ولعل سوء ظنها قد جاوز الحدود. ووجدتني في النهاية سعيدا بنصر وهمي أما في الواقع فإن العناد الذي سد في وجهي باب الأمل لم يلن لحظة واحدة. وساءلت نفسي متى أجد الشجاعة لأهجر البنسيون نهائيا؟! •••
بدا المنظر مألوفا وفاترا إلى حد ما. المدام تجلس لصق الراديو، تكاد تطرح رأسها وهي تتابع أغنية إفرنجية. أما عامر وجدي فقد راح يسمع لزهرة بعض الكلمات. ودق الجرس فإذا بالقادمة مدرسة زهرة. معذرة .. الشقة مزدحمة بالضيوف، فإذا سمحتم أعطيت الدرس هنا. كرم منها بلا ريب. واستقبلناها بترحاب وأدب. وهي وسيمة وأنيقة وموظفة. راقبتها وهي تدرس لزهرة، وجدتني منساقا للمقارنة بينهما بتأمل وأسى. هنا الفطرة والجمال والفقر والجهل، وهناك الثقافة والأناقة والوظيفة. آه لو تحل شخصية زهرة في بيئة الأخرى وإمكانياتها. وتطفلت المدام على الدرس لتشبع حب استطلاعها الأبدي؛ فعرفنا الاسم والأسرة وحتى الأخ المنتدب للعمل في السعودية. وإذا بي أسألها: أمن الممكن أن يرسل لنا بعض البضائع النادرة من هناك؟
فأجابت في تحفظ بأنها ستسأل عن إمكان ذلك.
وغادرت البنسيون إلى كافية دي لا بيه لمقابلة المهندس علي بكير. نظر إلي بثقة وقال: كل خطوة ترسم بدقة، والنتائج مضمونة!
حسن، فلنثب وثبة موفقة تجعل من زيارتنا للدنيا رحلة لها معناها وقيمتها. ثم سألني علي بكير: قابلت صفية بركات في ديليس فهل حقا ...؟
قلت بامتعاض: عليها اللعنة !
ضحك وهو ينظر في عيني باهتمام ثم عاد يسألني: ولكن هل هجرتها حقيقة من أجل ...؟ - لا تصدقها من فضلك، متى كانت ممن يعتمد الإنسان على صدقهن؟!
فازداد اهتماما وتفكيرا وهو يقول: إن سرنا من الأسرار التي يضن بها حتى على الزوجة والابن!
صفحة غير معروفة