بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله القديم الواحد، الكريم الماجد، المقدس بكماله عن الشريك والضد والمعاند، المتنزه بوجوب وجوده عن الوالدة والصاحبة والولد والوالد، أحمده حمد معترف بآلائه غير شاك ولا جاحد، وأشكره على إنعامه المتضاعف المتزايد، شكرا يعجز عنه الراكع والساجد، والصلاة على سيد كل زاهد وأشرف كل عابد، محمد المصطفى وعترته الأكارم والأماجد، صلاة تدوم بدوام الأعصار والأوابد.
أما بعد، فهذه رسالة شريفة ومقالة لطيفة، اشتملت على أهم المطالب 1 في أحكام الدين، وأشرف مسائل المسلمين، وهي مسألة الإمامة، التي يحصل بسبب إدراكها نيل درجة الكرامة وهي أحد أركان الإيمان المستحق بسببه الخلود في الجنان، والتخلص من غضب الرحمن، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " من مات لم ولم يعرف إمام زمانه، مات ميتة جاهلية " خدمت بها خزانة السلطان الأعظم، مالك رقاب الأمم،
صفحة ٢٧
ملك ملوك طوائف العرب والعجم، مولى النعم، ومسند الخير والكرم، شاهنشاه المعظم، غياث الحق والملة والدين، أولجايتو محمد خدابنده محمد خلد الله سلطانه، وثبت قواعد ملكه وشيد أركانه، وأمده بعنايته وألطافه، وأيده بجميل إسعافه، وقرن دولته بالدوام إلى يوم القيامة، قد لخصت فيها خلاصة الدلائل، وأشرت إلى رؤوس المسائل، من غير تطويل ممل، ولا إيجاز محل، وسميتها " منهاج الكرامة في معرفة الإمامة " والله الموفق للصواب، وإليه المرجع والمآب. ورتبتها على فصول:
صفحة ٢٩
الفصل الأول: في نقل المذاهب في هذه المسألة ذهبت الإمامية إلى أن الله تعالى عدل حكيم لا يفعل قبيحا ولا يخل بواجب، وأن أفعاله إنما تقع لغرض صحيح وحكمة، وأنه لا يفعل الظلم ولا والعبث، وأنه رؤوف بالعباد يفعل بهم ما هو الأصلح لهم والأنفع، وأنه تعالى كلفهم تخييرا لا إجبارا، ووعدهم بالثواب 1 وتوعدهم بالعقاب على لسان أنبيائه ورسله المعصومين، بحيث لا يجوز عليهم الخطأ ولا النسيان ولا المعاصي، وإلا لم يبق وثوق بأقوالهم، فتنتفي فائدة البعثة.
ثم أردف الرسالة بعد موت الرسول بالأمة، فنصب أولياء معصومين، ليأمن الناس من غلطهم وسهوهم وخطائهم، فينقادون إلى أوامرهم، لئلا يخلي الله تعالى العالم من لطفه ورحمته.
وأنه تعالى لما بعث رسوله محمدا صلى الله عليه وآله، قام بنقل الرسالة، ونص على أن الخليفة بعده علي بن أبي طالب، ثم من بعده ولده الحسن الزكي، ثم على الحسين الشهيد، ثم على علي بن الحسين زين العابدين، ثم على محمد بن علي الباقر، ثم على جعفر بن محمد الصادق، ثم على موسى بن جعفر الكاظم، ثم على علي بن موسى الرضا، ثم على محمد بن علي الجواد، ثم على علي بن محمد الهادي، ثم على الحسن بن علي العسكري، ثم على الخلف الحجة محمد بن الحسن
صفحة ٣١
عليهم السلام، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يمت إلا عن وصية بالإمامة. 1 وذهب أهل السنة إلى خلاف ذلك كله، فلم يثبتوا العدل والحكمة في أفعاله، تعالى، وجوزوا عليه فعل القبيح والاخلال بالواجب، وأنه تعالى لا يفعل لغرض، بل كل أفعاله لا لغرض من الأغراض، ولا لحكمة البتة.
وأنه تعالى يفعل الظلم والعبث، وأنه لا يفعل ما هو الأصلح للعباد، بل ما هو الفساد في الحقيقة لأن فعل المعاصي وأنواع الكفر والظلم وجميع أنواع الفساد الواقعة في العالم مستندة إليه، تعالى الله عن ذلك.
وأن المطيع لا يستحق ثواب، والعاصي لا يستحق عقابا، بل قد يعذب المطيع طول عمره، المبالغ في امتثال أوامره تعالى، كالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويثيب العاصي طول عمره بأنواع المعاصي وأبلغها، كإبليس وفرعون.
وأن الأنبياء غير معصومين بل قد يقع منهم الخطاء والزلل والفسوق والكذب والسهو، وغير ذلك 2.
صفحة ٣٢
وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ينص على إمام بينهم، وأنه مات عن غير وصية، وأن الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبو بكر بن أبي قحافة لمبايعة 1 عمر بن الخطاب له برضا أربعة: أبي عبيدة، وسالم مولى حذيفة، وأسيد بن حضير، وبشر بن سعيد 2، ثم من بعده عمر بن الخطاب بنص أبي بكر عليه، ثم عثمان بن عفان بنص عمر على ستة 3 هو أحدهم، فاختار بعضهم، ثم علي بن أبي طالب عليه السلام لمبايعة الخلق له.
ثم اختلفوا، فقال بعضهم: أن الإمام بعده ابنه الحسن، وبعضهم قال: أنه معاوية بن أبي سفيان، ثم ساقوا الإمامية في بني أمية، إلى أن ظهر السفاح من بني العباس، فساقوا الإمامة إليه، ثم انتقلت الإمامة منه إلى أخيه المنصور، ثم ساقوا الإمامة في بني العباس إلى المعتصم 5 (إلى أربعين) 6.
صفحة ٣٣
الفصل الثاني: في أن مذهب الإمامية واجب الاتباع، لأنه لما عمت البلية على كافة المسلمين بموت النبي صلى الله عليه وآله وسلم واختلف الناس بعده، وتعددت آراؤهم بحسب تعدد أهوائهم:
فبعضهم طلب الأمر لنفسه بغير حق، وبايعه 1 أكثر الناس طلبا للدنيا، كما اختار عمر بن سعد ملك الري أياما يسيرة 2 لما خير بينه وبين قتل الحسين عليه السلام، مع علمه بأن في قتله النار وإخباره بذلك في شعره حيث قال:
فوالله ما أدري وإني لصادق * أفكر في أمري على خطرين أأترك ملك الري، والري منيتي * أم أصبح مأثوما بقتل حسين وفي قتله النار التي ليس دونها * حجاب، ولي في الري قرة عين وبعضهم اشتبه 3 الأمر عليه، ورأى طالب الدنيا مبايعا 4 له، فقلده وبايعه 5، وقصر في نظره فخفي عليه الحق، واستحق المؤاخذة من الله تعالى بإعطاء الحق لغير مستحقه، بسبب
صفحة ٣٥
إهمال النظر.
وبعضهم قلد لقصور فطنته، ورأى الجم الغفير فبايعهم (١)، وتوهم أن الكثرة تستلزم الصواب، وغفل عن قوله تعالى <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/38/24" target="_blank" title="ص: 24">﴿وقليل ما هم﴾</a> (٢) (وقليل من عبادي الشكور) (٣).
وبعضهم طلب الأمر لنفسه بحق، وتابعه (٤) الأقلون الذين أعرضوا عن الدنيا وزينتها، ولم تأخذهم في الله تعالى لومة لائم، بل أخلص (٥) لله تعالى واتبع ما أمر به من طاعة من يستحق التقديم.
وحيث حصلت (٦) للمسلمين هذه البلية وجب على كل واحد (٧) النظر في الحق، واعتماد الإنصاف، وأن يقر الحق مقره، ولا يظلم مستحقه، فقد قال الله تعالى <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/11/18" target="_blank" title="هود: 18">﴿ألا لعنة الله على الظالمين﴾</a> (8) وإنما كان مذهب الإمامية واجب الاتباع لوجوه:
الأول:
لما نظرنا في المذاهب (9) وجدنا أحقها وأصدقها وأخلصها عن شوائب الباطل، وأعظمها تنزيها لله تعالى ولرسله ولأوصيائه، (أحسن (ها في) المسائل الأصولية والفروعية،
صفحة ٣٦
مذهب الإمامية.
لأنهم اعتقدوا أن الله تعالى هو المخصوص بالأزلية والقدم، وأن كل ما سواء محدث، لأنه واحد.
وأنه ليس بجسم، ولا في مكان، وإلا لكان محدثا، بل نزهوه عن مشابهة المخلوقات، وأنه تعالى قادر على جميع المقدورات.
وأنه عدل حكيم لا يظلم أحدا، ولا يفعل القبيح، وإلا لزم الجهل والحاجة، تعالى الله عنهما، ويثيب المطيع، لئلا يكون ظالما، ويعفو عن العاصي أو يعذبه بجرمه من (١) غير ظلم له.
وأن أفعاله محكمة واقعة لغرض ومصلحة، وإلا لكان عابثا، وقد قال: <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/21/16" target="_blank" title="الأنبياء: 16">﴿وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين﴾</a> (٢)، وأنه أرسل الأنبياء لإرشاد العالم.
وأنه تعالى غير مرئي، ولا مدرك بشئ من الحواس، لقوله تعالى <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/6/103" target="_blank" title="الأنعام: 103">﴿لا تدركه الأبصار﴾</a> (3)، وأنه (4) ليس في جهة.
وأن أمره ونهيه وإخباره حادث، لاستحالة أمر المعدوم ونهيه وإخباره. وأن الأنبياء معصومون عن الخطاء والسهو والمعصية، صغيرها وكبيرها، من أول العمر إلى آخره (5)، وإلا يبق وثوق بما يبلغونه، فانتفت فائدة البعثة، ولزم التنفير عنهم، وأن الأئمة معصومون كالأنبياء في ذلك، لما تقدم.
و [لأن الشيعة] أخذوا أحكامهم الفروعية عن الأئمة المعصومين، الناقلين عن جدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، الأخذ ذلك من الله تعالى بوحي جبرئيل عليه السلام إليه، يتناقلون ذلك عن الثقات
صفحة ٣٧
منهاج الكرامة خلفا عن سلف، إلى أن تتصل الرواية بأحد المعصومين، ولم يلتفتوا إلى القول بالرأي والاجتهاد، وحرموا الأخذ بالقياس والاستحسان.
أما باقي المسلمين، فقد ذهبوا كل مذهب:
فقال بعضهم - وهم جماعة الأشاعرة - أن القدماء كثيرون مع الله تعالى، وهي المعاني التي يثبتونها موجودة في الخارج، كالقدرة والعلم وغيره ذلك، فجعلوه تعالى مفتقرا في كونه عالما إلى ثبوت معنى، هو العلم، وفي كونه قادر إلى ثبوت معنى هو القدرة، وغير ذلك، ولم يجعلوه قادرا لذاته، ولا عالما لذاته، ولا رحيما لذاته، ولا مدركا لذاته، بل لمعان قديمة يفتقر في هذه الصفات إليها، فجعلوه محتاجا، ناقصا في ذاته، كاملا بغيره، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
واعترض شيخهم فخر الدين الرازي عليهم بأن قال: إن النصارى كفروا لأنهم قالوا أن القدماء ثلاثة، والأشاعرة أثبتوا قدماء (1) تسعة، وقال جماعة الحشوية والمشبهة أن الله تعالى جسم له طول وعرض وعمق، وأنه يجوز عليه المصافحة، وأن المخلصين من المسلمين يعانقونه (2) في الدنيا (3).
وحكى الكعبي عن بعضهم أنه كان يجوز رؤيته في الدنيا، وأن يزورهم ويزورونه (4).
وحكي عن داود الظاهري أنه قال: اعفوني عن اللحية والفرج، واسألوني عما رواه ذلك، وقال أن معبوده جسم ولحم ودم، وله جوارح وأعضاء وكبد ورجل ولسان وعينين (5) وأذنين، وحكي أنه قال: هو مجوف (6) من أعلاه إلى صدره، مصمت ما سوى
صفحة ٣٨
ذلك، وله شعر قطط، (حتى قالوا: اشتكت) (1) عيناه فعادته الملائكة، وبكى على طوفان نوح حتى رمدت عيناه، وأنه يفضل من العرش عنه من كل جانب أربع أصابع (2).
وذهب بعضهم إلى أنه تعالى ينزل في كل ليلة جمعة (3) على شكل أمرد حسن الوجه راكبا على حمار، حتى أن بعضهم ببغداد وضع على سطح داره معلقا، يضع كل ليلة جمعة فيه شعيرا وتبنا، لتجويز أن ينزل الله تعالى على حماره على ذلك السطح، فيشتغل الحمار بالأكل، ويشتغل الرب بالنداء " هل من تائب "، هل من مستغفر (4)؟ تعالى الله عن مثل هذه العقائد الردية (5) في حق الله تعالى.
وحكي عن بعض المنقطعين التاركين (الدنيا) (6) من شيوخ الحشوية، أنه اجتاز عليه في بعض الأيام نفاط ومعه أمرد حسن الصورة، قطط الشعر - على الصفات التي يصفون ربهم بها - فألح الشيخ في النظر إليه وكرره، وأكثر تصويبه إليه، فتوهم فيه النفاط، فجاء إليه ليلا، وقال: أيها الشيخ، رأيتك تلح بالنظر إلى هذا الغلام، وقد أتيت به إليك، فإن كان لك فيه نية (7) فأنت الحاكم، فحرد (8) عليه، وقال: إنما كررت النظر إليه لأن مذهبي أن الله تعالى ينزل الله على صورة هذا الغلام، فتوهمت أنه الله، فقال له النفاط: ما أنا عليه من النفاطة أجود مما أنت عليه من الزهد مع هذه المقالة.
وقالت الكرامية: أن الله تعالى في جهة فوق، ولم يعلموا أن كل ما هو في جهة فهو محدث،
صفحة ٣٩
ومحتاج إلى تلك الجهة (1).
وذهب آخرون إلى أن الله تعالى لا يقدر على مثل مقدور العبد، وآخرون إلى أنه لا يقدر على عين مقدور العبد، وذهب الأكثر منهم إلى أن الله تعالى يفعل القبائح: وأن جميع أنواع المعاصي والكفر وأنواع الفساد واقعة بقضاء الله تعالى وقدره، وأن العبد لا تأثير له في ذلك، وأنه لا غرض لله تعالى في أفعاله، ولا يفعل لمصلحة العباد شيئا، وأنه تعالى يريد المعاصي من الكافر ولا يريد منه الطاعة، وهذا يستلزم أشياء شنيعة:
منها: أن يكون الله تعالى أظلم من كل ظالم: لأنه يعاقب الكافر على كفره، وهو قدره عليه، ولم يخلق فيه قدرة على الإيمان، فكما أنه يلزم الظلم لو عذبه على لونه وطوله وقصره - لأنه لا قدرة له فيها - كذا يكون ظالما لو عذبه على المعصية التي فعلها فيه.
ومنها: إفحام الأنبياء وانقطاع حجتهم، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا قال للكافر: " آمن بي وصدقني "، يقول له: " قل للذي بعثك يخلق في الإيمان أو القدرة المؤثرة فيه، حتى أتمكن من الإيمان فأومن، وإلا فكيف تكلفني الإيمان ولا قدرة لي عليه، بل خلق في الكفر، وأنا لا أتمكن من مقاهرة الله تعالى "، فينقطع النبي ولا يتمكن من جوابه، ومنها: تجويز أن يعذب الله تعالى سيد المرسلين على طاعته، ويثيب إبليس على معصية، لأنه يفعل (الأشياء) (2) لا لغرض، فيكون فاعل الطاعة سفيها: لأنه يتعجل من الاجتهاد في العبادة، وإخراج ماله في عمارة المساجد والربط والصدقات من غير نفع يحصل له: لأنه قد يعاقبه على ذلك، لأنه، ولو فعل - عوض ذلك - ما يلتذ به ويشتهيه من أنواع المعاصي قد يثيبه، فاختيار الأول يكون سفها عند كل عاقل، والمصير إلى هذا المذهب يؤدي إلى خراب العالم واضطراب أمر الشريعة المحمدية (3).
صفحة ٤٠
ومنها: أنه يلزم أن لا يتمكن أحد من تصديق أحد من الأنبياء عليهم السلام: لأن التوصل إلى ذلك والدليل عليه إنما يتم بمقدمتين: إحداهما: أن الله تعالى فعل المعجز على يد النبي لأجل التصديق. والثانية: أن كل ما صدقه الله تعالى فهو صادق، وكلتا المقدمتين لا تتم على قولهم، لأنه إذا استحال أن يفعل لغرض، استحال أن يظهر المعجز لأجل التصديق، وإذا كان فاعلا للقبيح، ولأنواع الإضلال والمعاصي والكذب وغير ذلك، جاز أن يصدق الكذاب فلا يصح الاستدلال على صدق أحد من الأنبياء، ولا التدين بشئ من الشرائع والأديان.
ومنها: أنه لا يصح أن يوصف الله تعالى بأنه غفور رحيم حليم عفو (1) لأن الوصف بهذه إنما يثبت لو كان الله تعالى مسقطا (2) للعقاب في حق الفساق، بحيث إذا أسقطه عنهم كان غفورا عفوا رحيما (3)، وإنما يستحق العقاب لو كان العصيان من العبد لا من الله تعالى.
ومنها: أنه يلزم منه (4) تكليف ما لا يطاق: لأنه يكلف الكافر بالإيمان (ولا قدرة له عليه، وهو قبيح عقلا، والسمع قد منع منه، فقال) (5): (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) (6) ومنها: أنه يلزم منه أن يكون أفعالنا الاختيارية الواقعة بحسب قصودنا ودواعينا، مثل حركتنا يمنة ويسرة، وحركة البطش باليد والرجل في الصنائع المطلوبة لنا، كالأفعال الاضطرارية، مثل حركة النبض وحركة الواقع من شاهق بإيقاع غيره، لكن الضرورة قاضية بالفرق بينهما، أن كل عاقل يحكم بأنا قادرون على الحركات الاختيارية، وغير قادرين على الحركة إلى السماء.
صفحة ٤١
قال أبو الهذيل العلاف (1): " حمار بشر أعقل من بشر، لأن حمار بشر لو أتيت به إلى جدول صغير وضربته للعبور فإنه يطفره، ولو أتيت به (2) إلى جدول كبير لم يطفره، لأنه فرق بين ما يقدر على طفره، وما لا يقدر عليه (3) وبشر لا يفرق بين المقدور له وغير المقدور ".
ومنها: أنه يلزم أن لا يبقى عندنا فرق بين من أحسن إلينا غاية الإحسان طول عمره، وبين من أساء إلينا غاية الإساءة طول عمره، ولم يحسن منا شكر الأول وذم الثاني، لأن الفعلين صادران من الله تعالى عندهم.
ومنها: التقسيم الذي ذكره مولانا وسيدنا موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام وقد سأله أبو حنيفة وهو صبي فقال: المعصية ممن؟ فقال الكاظم عليه السلام: (المعصية إما من العبد أو من ربه أو منهما، فإن كان من الله تعالى فهو أعدل (4) وأنصف من أن يظلم عبده ويأخذه بما لم يفعله، وإن كانت المعصية منهما فهو شريكه (5)، والقوي أولى بإنصاف عبده الضعيف، وإن
صفحة ٤٢
كانت المعصية من العبد وحده فعليه وقع الأمر، وإليه توجه المدح والذم، وهو أحق بالثواب والعقاب، وجبت (١) له الجنة أو النار. فقال أبو حنيفة <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن- الكريم/3/34" target="_blank" title="آل عمران: 34">﴿ذرة بعضها من بعض﴾</a> (٢) ومنها: أنه يلزم أن يكون الكافر مطيعا بكفره، لأنه قد فعل ما هو مراد الله تعالى، لأنه أراد منه الكفر. وقد فعله، ولم يفعل الإيمان الذي كرهه الله تعالى منه، فيكون قد أطاعه لأنه فعل مراده ولم يفعل ما كرهه (٣).
ومنها: أنه يلزم نسبة السفه (٤) إلى الله تعالى، لأنه أمر الكافر بالإيمان ولا يريده منه، وينهاه عن المعصية وقد أرادها (٥)، وكل عاقل ينسب من يأمر بما لا يريد وينهى عما يريد إلى السفه، تعالى الله عن ذلك.
ومنها: أنه يلزم عدم الرضا بقضاء الله تعالى وقدره: لأن الرضا بالكفر حرام بالإجماع، والرضا بقضاء الله تعالى وقدره واجب، فلو كان الكفر بقضاء الله تعالى وقدره، وجب علينا الرضا به، لكن لا يجوز الرضا بالكفر.
ومنها: أنه يلزم أن نستعيذ بإبليس من الله تعالى، ولا يحسن قوله تعالى <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/16/98" target="_blank" title="النحل: 98">﴿فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم﴾</a> (6)، لأنهم نزهوا إبليس والكافر من المعاصي، وأضافوها إلى الله تعالى، فيكون على المكلفين شرا من إبليس عليهم، تعالى الله عن ذلك.
ومنها: أنه لا يبقى وثوق بوعد الله تعالى ووعيده، لأنهم إذا جوزوا استناد (7) الكذب في العالم إليه جاز أن يكذب في إخباراته كلها، فتنتفي فائدة بعثة الأنبياء، بل وجاز منه إرسال
صفحة ٤٣
الكذابين، فلا يبقى لنا طريق إلى تميز الصادق من الأنبياء والكاذب (١).
ومنها: أنه يلزم منه تعطيل الحدود والزواجر عن المعاصي، فإن الزنا إذا كان واقعا بإرادة الله تعالى، والسرقة (٢) إذا صدرت من الله تعالى، وإرادته هي المؤثرة، لم يجز للسلطان المؤاخذة عليها، لأنه يصد السارق عن مراد الله تعالى ويبعثه على ما يكرهه الله تعالى، ولو صد الواحد منا غيره عن مراده، وحمله على ما يكرهه، استحق منه اللوم.
ويلزم أن يكون الله مريدا للنقيضين، لأن المعصية مرادة (٣) الله تعالى، والزجر عنها مراد له أيضا.
ومنها: أنه يلزم منه مخالفة المعقول والمنقول، أما المعقول، فلما تقدم من العلم الضروري بإسناد (٤) أفعالنا الاختيارية إلينا، وقوعها بحسب إرادتنا، فإذا أردنا الحركة يمنة لم يقع يسرة، وبالعكس، والشك في ذلك عين السفسطة.
وأما المنقول، فالقرآن مملوء من إسناد (٥) أفعال البشر إليهم، كقوله تعالى <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن- الكريم/53/37" target="_blank" title="النجم: 37">﴿وإبراهيم الذي وفي﴾</a> (٦) <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/19/37" target="_blank" title="مريم: 37">﴿فويل للذين كفروا﴾</a> (٧)، <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/16/32" target="_blank" title="النحل: 32">﴿ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون﴾</a> (٨) (اليوم تجزى كل نفس بما كسبت (٩) <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/45/28" target="_blank" title="الجاثية: 28">﴿اليوم تجزون ما كنتم تعملون﴾</a> (١٠) <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/20/15" target="_blank" title="طه: 15">﴿لتجزى كل نفس بما تسعى﴾</a> (11)
صفحة ٤٤
<a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي /القرآن-الكريم/16/90" target="_blank" title="النحل: 90">﴿هل تجزون إلا ما كنتم تعملون﴾</a> (١) <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي /القرآن-الكريم/6/160" target="_blank" title="الأنعام: 160">﴿من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها﴾</a> (٢) <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/35/30" target="_blank" title="فاطر: 30">﴿ليوفيهم أجورهم﴾</a> (٣) <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/2/286" target="_blank" title="البقرة: 286">﴿لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت﴾</a> (٤) <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/4/160" target="_blank" title="النساء: 160">﴿فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات﴾</a> (٥) <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن- الكريم/52/21" target="_blank" title="الطور: 21">﴿كل امرئ بما كسب رهين﴾</a> (٦) <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن- الكريم/4/123" target="_blank" title="النساء 123">﴿من يعمل سوءا يجز به﴾</a> (٧) (وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي (٨) <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/4/40" target="_blank" title="النساء: 40">﴿إن الله لا يظلم مثقال ذرة﴾</a> (٩) <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/41/46" target="_blank" title="فصلت: 46">﴿وما ربك بظلام للعبيد﴾</a> (١٠) <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/16/118" target="_blank" title="النحل: 118">﴿وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون﴾</a> (١١) <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي /القرآن- الكريم/17/71" target="_blank" title="الإسراء: 71">﴿ولا يظلمون فتيلا﴾</a> (١٢) (وما الله يريد ظلما للعباد) (١٣) وأي ظلم أعظم من تعذيب الغير على فعل لم يصدر منه، بل ممن يعذبه؟
قال الخصم: القادر يمتنع أن يرجح مقدوره من غير مرجح ومع المرجح يجب الفعل، فلا قدرة، ولأنه يلزم أن يكون الإنسان شريكا لله تعالى، ولقوله تعالى <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن- الكريم/37/96" target="_blank" title="الصافات: 96">﴿والله خلقكم وما تعملون﴾</a> (14).
والجواب عن الأول: المعارضة بالله تعالى، فإنه تعالى قادر، فإن افتقرت القدرة إلى
صفحة ٤٥
والجواب عن الأول: المعارضة بالله تعالى، فإنه تعالى قادر، فإن افتقرت القدرة إلى المرجح - وكان المرجح موجبا للأثر - لزم أن يكون الله تعالى موجبا لا مختارا، فيلزم الكفر.
وعن الثاني: أي شركة هنا؟! والله تعالى هو القادر على قهر العبد وإعدامه، ومثال هذا أن السلطان إذا ولى شخصا بعض البلاد، فنهب وظلم وقهر، فإن السلطان يتمكن من قتله والانتقام منه واستعادة ما أخذه، وليس يكون شريكا للسلطان.
وعن الثالث: أنه إشارة إلى الأصنام التي كانوا ينحتونها ويعبدونها، فأنكر عليهم وقال <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن- الكريم/37/95" target="_blank" title="الصافات: 95">﴿أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعلمون﴾</a> (١).
وذهبت الأشاعرة إلى أن الله تعالى مرئي بالعين، مع أنه مجرد عن الجهات، وقد قال تعالى <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن- الكريم/6/103" target="_blank" title="الأنعام: 103">﴿لا تدركه الأبصار﴾</a> (٢)، وخالفوا الضرورة في (٣) أن المدرك بالعين يكون مقابلا أو في حكمه، وخالفوا جميع العقلاء في ذلك وذهبوا إلى تجويز أن يكون بين أيدينا جبال شاهقة من الأرض إلى السماء، مختلفة الألوان لا نشاهدها، وأصوات هائلة لا نسمعها، وعساكر مختلفة متحاربة بأنواع الأسلحة، بحيث يماس أجسامنا أجسامهم (٤)، لا نشاهد صورهم ولا حركاتهم، ولا نسمع أصواتهم الهائلة، وأن نشاهد جسما أصغر الأجسام، كالذرة في المشرق ونحن في المغرب مع كثرة الحائل بيننا وبينها، وهذا عين السفسطة (٥).
وذهبوا إلى أنه تعالى آمر وناه (٦) في الأزل، ولا مخلوق عنده (٧)، قائلا <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/33/1" target="_blank" title="الأحزاب: 1">﴿يا أيها النبي اتق الله﴾</a> (٨) <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/2/278" target="_blank" title="البقرة 278">﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله﴾</a> (٩) <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/4/1" target="_blank" title="النساء: 1">﴿يا أيها الناس اتقوا ربكم﴾</a> (10). ولو جلس *
صفحة ٤٦
شخص في منزله ولا غلام عنده، فقال: يا سالم قم، يا غانم كل، يا نجاح ادخل، قيل (1): لمن تنادي؟ فيقول (2): لعبيد أشتريهم بعد عشرين سنة، نسبه كل عاقل إلى السفه والحمق، فكيف يحسن منهم أن ينسبوا الله تعالى إليه في الأزل.
وذهب جميع من عدا الإمامية والإسماعيلية إلى أن الأنبياء والأئمة غير معصومين، فجوزوا بعثه من يجوز عليه الكذب والسهو والخطاء والسرقة، فأي وثوق يبقى للعامة في أقاويلهم؟ وكيف يحصل الانقياد إليهم؟ وكيف يجب اتباعهم مع تجويز أن يكون ما يأمرون به خطأ؟ ولم يجعلوا الأئمة محصورين في عدد معين، بل كل من تابع (3) قرشيا انعقدت إمامته عندهم، ووجبت طاعته على جميع الخلق إذا كان مستور الحال، وإن كان على غاية من الفسوق (4) والكفر والنفاق.
وذهب الجميع منهم إلى القول بالقياس والأخذ بالرأي، فأدخلوا في دين الله ما ليس منه، وحرفوا أحكام الشريعة، وأحدثوا مذاهب أربعة لم تكن في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا (5) في زمن صحابته، وأهملوا أقاويل الصحابة، مع أنهم نصوا على ترك القياس، وقالوا: أول من قاس إبليس.
وذهبوا بسبب ذلك إلى أمور شنيعة، كإباحة البنت المخلوقة من الزنا، وسقوط الحد عمن نكح أمه وأخته وبنته، مع علمه بالتحريم والنسب، بواسطة عقد يعقده وهو يعلم بطلانه، وعمن لف على ذكره خرقة وزنا بأمه أو بنته (6) وعن اللائط مع أنه أفحش من الزنا وأقبح.
صفحة ٤٧
وإلحاق نسب المشرقية بالمغربي (1)، فإذا زوج الرجل ابنته (2) وفي في المشرق، برجل هو وإياه في المغرب، ولم (3) يفترقا ليلا ونهارا، حتى مضت مدة ستة أشهر، فولدت البنت في المشرق، التحق نسب الولد بالرجل، وهو وأبوها في المغرب (4) مع أنه لا يمكنه الوصول إليها إلا بعد سنين متعددة، بل لو حبسه السلطان من حين العقد وقيده، وجعل عليه حفظة مدة خمسين سنة، ثم وصل إلى بلد المرأة، فرأى جماعة كثيرة من أولادها وأولاد أولادهم (5) إلى عدة بطون، التحقوا كلهم بالرجل الذي لم يقرب هذه المرأة ولا غيرها البتة.
وإباحة النبيذ مع مشاركته للخمر في الإسكار، والوضوء (6) والصلاة في جلد الكلب، وعلى العذرة اليابسة.
وحكى بعض الفقهاء لبعض الملوك - وعنده بعض فقهاء الحنفية - صفة صلاة الحنفي، فدخل دارا مغصوبة، وتوضأ بالنبيذ، وكبر (7) بالفارسية من غير نية (8) وقرأ (مدهامتان) (9) لا غير بالفارسية، ثم طأطأ رأسه من غير طمأنينة، وسجد كذلك، ورفع رأسه بقدر حد السيف، ثم سجد وقام ففعل كذلك ثانية، ثم أحدث، فتبرأ الملك - وكان حنيفا - من هذا المذهب.
وأباحوا المغصوب لو غير الغاصب الصفة، فقالوا: لو أن سارقا دخل بدار شخص له فيه دواب ورحى وطعام، فطحن السارق طعام صاحب الدار بدوابه وأرحيته ملك
صفحة ٤٨
الطحين بذلك، فلو جاء المالك ونازعه، كان المالك ظالما والسارق مظلوما، فلو تقاتلا، فإن قتل المالك، كان ظالما (1)، وإن (2) قتل السارق كان شهيدا.
وأوجبوا الحد على الزاني إذا كذب الشهود، (وأسقطوه إذا صدقهم) (3) فأسقط الحد مع اجتماع الإقرار والبينة، وهذا ذريعة إلى إسقاط حدود الله تعالى، فإن كل من شهد عليه بالزنا يصدق الشهود ويسقط عنه الحد.
وإباحة الكلب (4)، وإباحة الملاهي، كالشطرنج والغناء وغير ذلك من المسائل التي لا يحتملها هذا المختصر.
الوجه الثاني:
في الدلالة على وجوب اتباع مذهب الإمامية:
ما قاله شيخنا الإمام الأعظم خواجة نصير الملة والحق والدين، محمد بن الحسن الطوسي قدس الله روحه، وقد سألته عن المذاهب، فقال: بحثنا عنها وعن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، فرقة منها ناجية والباقي في النار " (5)، فوجدنا الفرقة الناجية (هي فرقة) (6) الإمامية، لأنهم باينوا جميع المذاهب، وجميع المذاهب قد اشتركت في أصول العقائد.
صفحة ٤٩