صورته: أسمر اللون ربعة ممتلئ، قوي البنية، جذاب المنظر، نافذ اللحظ، خفيف العارضين، غريب عفيف النفس، قانت كثير القيام، لا ينام إلا الغلس إلى الضحى، ولا يأكل غير مرة واحدة في اليوم، على أنه يكثر من شرب الشاي والتدخين، وهو قوي المعارضة، ميال إلى المعارضة، طويل الحجة، واسع المحفوظ نسبية يكاد يكشف حجب الضمائر، ويهتك أسرار السرائر، ولكنه مع فضله لا يسلم من حدة المزاج.
وانتهت فترة العمل في العواصم الأوربية بانتقاله إلى إيران بدعوة من الشاه ناصر الدين، وفي إيران التف حوله الناس كما التفوا حوله في مصر، وأثار ذلك حفيظة حساده، فدسوا له وغادر إيران، وعاد إليها من جديد بإلحاح من الشاه عليه، وفي هذه المرة تنكر له الشاه نفسه تنكرا شديدا، وأخرجه بالقوة إلى العراق وهو معتل الجسم.
وقد ألب السيد على الشاه أعداء الحكم المطلق والناقمين على الفساد، والمطالبين بالإصلاح، فأودى ذلك بالشاه نفسه، وبسقوط الحكومة الاستبدادية في النهاية.
ثم حدث بعد ذلك أن قبل السيد دعوة السلطان عبد الحميد للإقامة بالقسطنطينية، ولم يفسر مترجمو حياته حتى الآن لم انخدع وقبل تلك الدعوة التي أدت إلى وقوعه في إسار مموه بالذهب كما قيل، أيرجع القبول إلى شدة وثوقه بنفسه، وبمقدرته على توجيه سياسة عبد الحميد، وباستطاعته الاحتفاظ بحريته، أو يرجع القبول إلى بقية من حسن الظن في الملوك والسلاطين وإلى الأمل، وكان كثيرا ما يقتبس
إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون .
وقضى خمس سنين من حياته يعيش بين مظاهر خداعة من عطف السلطان ودسائس لا تحصى، وكم تضرع أن يسمحوا له بالسفر، فأمسكوه بقية عمره في إسار مموه بالذهب، بل ومن المؤرخين من ذهب إلى أنه لقح شفته بمادة سامة سببت له حالة مرضية تشبه السرطان.
وسواء ما صح في ذلك، فهو في تاريخ الشرق من شهداء الحرية، وهو في تاريخ الشرق أول من دعا إلى الاستمساك بالعروة الوثقى.
معركة غيرت وجه التاريخ: عين جالوت
البطولة التي أتحدث عنها اليوم، هي البطولة التي بدت في عين جالوت، في رمضان منذ نحو سبعمائة سنة، وكانت البطولة التي أبدتها مصر ممثلة في سلطانها الملك المظفر سيف الدين قطز، وأمرائها وأجنادها من أصحاب السيوف، وعلمائها من القاطعين بالأحكام الشرعية، والمفتين، والمتصدرين للتدريس، ورجال دواوينها من أصحاب الأقلام، وأهل الفلاحة والصناعة والتجارة، وهم عماد الدولة، وهم الذين جهزوا الجيوش، وهم الذين بثوا روح التساند والتكافل، وهم جميعا الذين أنقذوا مصر في عين جالوت، سواء منهم الذين حضروها بأنفسهم وبأشخاصهم، والذين كانوا في حكم الحاضرين؛ لأنهم هم الذين مكنوا المقاتلين من القتال.
وعلى هذا فالبطولة يمكن أن تكون عمل فرد، ويمكن أن تكون عمل مجموعة، وممكن أن تتجلى في عمل يحدث بارزا قائما بنفسه، ويمكن أن تتجلى في عصر بأكمله أو في حياة طائفة من الشعب، ويمكن أن تكون عملا حربيا، كما يمكن أن تكون نشاطا مدنيا؛ فالأبطال، كما صورهم كاتب غربي مشهور (وقد نقل كتابه للغة العربية أديب مشهور: السباعي) فهم الأدباء ورجال الحرب، وغيرهم من القادة، والبطولة أوسع من بطولات الملاحم، وزمانها يعم جميع أدوار التاريخ، وإن أحبت الأمم أن تمجد أبطالها الأقدمين، وأحيانا أبطالها الخرافيين، مع أن الواقع كما نعرف أعجب من الخرافة، فلنلتمس بطولاتنا في الواقع، وعين جالوت التي بدت فيها بطولة مصر ممثلة على النحو الذي وصفت ، شهدت في القديم بطولة من نوع آخر، ففيها، كما ورد في المأثور، قتل الصبي داوود العملاق جالوت، وقد قدر الله لداوود أن يقتل به جالوت ووهبه ما وهب.
صفحة غير معروفة