كان في هذا وأمثاله شفاء لما في صدره، ولكن ماذا كانت رسالة حياته، كانت السعي الدائب لفهم حقائق الأشياء، الاستناد إلى قوة المعنويات في عصر سادته القوة الغشوم، الطهارة والنقاء والبراءة من الإثم، الحرص على التقرب إلى الله، والإمعان في تسبيحه والثناء عليه، الضعف في القوة والقوة في الضعف، رد الأمور إلى بسطائها ...
وهل هناك أجمل من العصر الذي يذكر فيه أباه ليصلي عليه ويهدي إليه التحية، ويعلن اليأس من لقائه: أدعوك وعملي سيئ ليحسن، وقلبي مظلم لكي ينير، وقد عدلت عن المحجة إلى بنيات الطريق، وأنت العدل ومن عدلك أخاف يا من سبح له زرقة الأفق وزرقة الماء وحمرة الفجر وحمرة شفق الغروب، وإن كان الدمع يطفئ غضبك فهب لي عينين كأنهما غمامتا شتا تبلان الصباح والمساء، واجعلني في الدنيا منك وجلا لأفوز في الآخرة بالأمان، وارزقني في خوفك بر والدي وقد فاد بره إعداد الدعوة له بالغدو والآصال، فاهد اللهم له تحية أبقى من عروة الجدب وأذكى من ورد الربيع، وأحسن من بوارق الغمام تسفر لها ظلمة الجدث، ويحضر أغير السفاة، ويارح ثرى الأرض تحية رجل للقيا ليس براج: «يقول هنا إنه للقيا ليس براج، ولكنه يقول في موضع آخر»:
خلق الناس للبقاء فضلت
أمة يحسبونهم للنفاد
الغزالي وميزان العمل
حجة الإسلام أبو حامد الغزالي، أثره في التاريخ الإسلامي، هذا إن لم أقل في التاريخ الإنساني عامة، أن يضع للناس ميزان العمل، وهو التعبير الذي استخدم في الدلالة على التوازن الذي يجب أن يكون بين العلم والعمل، وهما معا طريق السعادة، على أن من العمل ما هو مسعد ومنه ما هو مشق ، وعلى أن من العلم ما هو نظري ومنه ما هو عملي، فالعلوم كثيرة وكذلك الأعمال، فهي مختلفة بالنوع ثم بالمقدار، وكذلك أيضا الخيرات والسعادات، فهي أنواع، وسعادة كل شيء في وصوله إلى كماله الخاص به، والكمال الخاص بالإنسان هو إدراك حقيقة العقليات على ما هي عليه، دون المتوهمات والحسيات التي يشاركه الحيوانات فيها، ولا يدرك شيء من هذا كله إلا بتزكية النفس وقواها وأخلاقها، وذلك بمجاهدة الهوى وتحري الخيرات والصوارف عنها.
فالسعادة مما ينبغي أن يطلب وأن يسعى إليه، والفتور عن طلب السعادة - كما قال - حماقة، والمجاهدة لا تكون بقهر النفس وجمعها على اعتزال العالم الزهاد والنساك، أو بتعذيب الأبدان، لكي تتخلص من علائق الدنيا وشواغلها، وإنما تكون المجاهدة بمعالجة النفس لتفضي إلى الفلاح، الفلاح هو الاهتداء إلى العلم وطريق تحصيله، وإلى العمل المسعد وطريقه، وهذا بتهذيب الأخلاق، وترويض النزوات النفسانية وبضبط الغضب، فتصير النفس مذعنة للعقل غير مستولية عليه، ويعرف الفرق بين الحق والباطل في الاعتقادات، وبين الصدق والكذب في المقال، وبين الجميل والقبيح في الأفعال.
هذا ومن الناس من يتوهم أن مجاهدة النفس لا تحدث إلا في أحوال الأزمات، أي عندما يتعرض الإنسان لضغط طارئ، على أن الأمر أعم من ذلك، فالمجاهدة موقف مستمر يقوم على التيقظ والمجالدة والمرابطة - والحالتان كلتاهما يوجدان في حياة الإمام الغزالي نفسه، وقد وصفهما هو في كتابه «المنقذ من الضلال» - وهو من أجمل كتب حكاية الحال إطلاقا.
عاش الغزالي في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري في خراسان والعراق، وفي عصر اشتد فيه اضطراب الفكر الاجتماعي، تشعبت فيه آراء الفرق تشعبا كبيرا، ومنها من دعت إلى انقلابات اجتماعية، وقد بلغ من شدة الخلاف أن الدول الإسلامية قام بينها ما نسميه الآن الحرب الباردة، وأنها أخذت إذ ذاك تحاول أن تقيم نظامها على أساس ضيق من الفرق بدلا من إقامته على أساس السنة الجامعة، وكان لا بد لمواجهة أزمة الأمة إذ ذاك من ظهور إمام يسمو على الفرق، إمام يرتفع من حضيض النقلية إلى بقاع الاستبصار، إمام خير الطريقين؛ طريق الاشتغال بتحصيل العلوم، وطريق الاقبال بكل الهمة على الله تعالى - فأما عن اشتغاله بتحصيل العلوم فكان اشتغالا متوازنا، أدرك أن النفس إن لم تكن قد ارتاضت بالعلوم الحقيقة البرهانية، فإنها تكتسب بالخاطر خيالات تظنها حقائق تترك عليها، وأما الإقبال على الله، فمؤداه محو الصفات المذمومة والإخلاص.
وقد قدر الله أن يكون الغزالي إمام المائة الخامسة، على أنه لم ينهض بما ينهض به إلا بعد أن اجتاز أزمة نفسانية عنيفة، هي التي وصفها - كما تقدم - في كتاب المنقذ من الضلال، وكان لا بد قبل أن يتصدى لما تصدى له من أن يعرف نفسه وقواها وخواصها، فكيف - كما قال - يشتغل بمخالطة زيد من لا يعرف زيدا؟
صفحة غير معروفة