وهذا الاتساع لم يحدث، بل الذي حدث أن يستحضر المؤرخ بيتا من الشعر يستدل به على إيمان أبي العلاء بعقيدة من العقائد، ويستحضر آخر بيتا يستدل به على إنكاره إياها وهكذا.
ألا ترى إذن، أن الفكر العربي عن الرجل في سجن؟
ولقد ظل الأمر كذلك إلى أن أطلق طه حسين الفكر من ذلك السجن، إلى أن صنف العقاد فصولا قيمة نقدية، إلى أن درست بنت الشاطئ رسالة الغفران دراسة محررة، إلى أن حبب أديب جم التواضع أبا العلاء إلى الناس ... أديب فقدناه منذ عهد قريب: هو المرحوم كامل كيلاني.
لقد أطلق هؤلاء الفكر العربي فيما يتعلق بأبي العلاء، فبدأنا ندرك أن سجونه الثلاثة كانت سبيله للحرية أو سبيله للمعرفة.
فسبيل المعرفة هي سبيل الحرية، ومعرفة الظاهرة الإنسانية استمدها من نفسه، ولا يستطيع أن يستمدها من نفسه إلا بلزوم البيت، إلا بأخذ نفسه بما أخذها به من زهد ومن نسك.
وهذا يختلف عما نشاهده الآن من محاولات لتحليل أو شرح الظاهرة الإنسانية.
إن الذين يحاولون هذا الآن يقدمون عليه ولديهم ما كشف عنه العلم من أسرار الفضاء، وما جمعه الجيولوجيون والبيولوجيون عن أطوار الأرض وأطوار الكائنات الحية، وما يتصوره النفسيون عن أغوار النفس الإنسانية، وما كتبه الأثريون عن الحضارات القديمة، والإنثروبولوجيون عن مختلف الجماعات الإنسانية.
هذه الذخيرة العظيمة لم يكن لدى أبي العلاء وأضرابه منها إلا القليل الذي لا يعتد به، ولكن كان لديه ذخيرة من نفاذ البصر إلى خبايا الباطن لا يغني عنها أي علم بظروف الحياة الإنسانية الخارجية.
وصح بهذا ما يقال الآن عن أن شرح الظاهرة الإنسانية ينبغي ألا يقدم عليه إلا من كان في وقت واحد أخا دين وفلسفة وطب.
وتختلف البواعث التي تبعث الناس لطلب المعرفة؛ منهم من يطلبها للتحكم في الطبيعة وقهرها لخدمة الإنسان، ومنهم من يطلبها مدفوعا بالغرور والكبرياء، ومنهم من لا يملك إلا التأمل في الكون، لا يملك أن يستخدم عقله وأن يستنطق كل ما حوله؛ محاولة من جانبه لإخضاع الظواهر لقوانين وضوابط معقولة، وكان أبو العلاء على ما أرى من هؤلاء، كان لا يستطيع إلا أن يعرف، وقد وجد في نفسه وفيما حوله ما يدعو إلى المعرفة.
صفحة غير معروفة