Breslaw
بألمانيا عام 1874م لأسرة يشتغل عائلها بالتجارة، وكان الغلام في صباه مرحا ذا خيال مبدع تبدى في ألعابه مع لداته، ولم تكن تبدو عليه في يفاعته علامات تشير بأن مصيره إلى حياة التأمل الهادئ العميق، لكنه لم يكد يزور جده لأمه الذي كان يعيش على غير مبعدة من برسلو حتى شهد في داره مكتبة ضخمة، لم يكن له بمثلها عهد، فكانت صفوف الكتب أمام عينيه، وطريقة جده في الحديث المثقف المصقول في مسمعيه، حافزا إلى حياة جديدة، كأنما قلب صفحة من حياته وبدأ صفحة؛ فقد مضى عهد المزاح واللعب، وجاء عهد العمل الجاد، المتصل، الذي سرعان ما أظهر منه في مدرسته طالبا لفت إليه الأنظار.
وحان حين دخول الجامعة فالتحق بجامعة برلين، وكان عمره عندئذ ثمانية عشر عاما، وكان موضوع التخصص الذي اختاره بادئ الأمر هو القانون ، ولم يكن اختياره هذا إلا إرضاء لرغبة أبيه التاجر؛ ولذلك فلم يلبث فتانا أن استجاب لصوت في دخيلة نفسه، وترك دراسة القانون لينصرف إلى الفلسفة وإلى الأدب والفن. انصرف إلى هذه الدراسات وفي ذهنه مسائل أشكلت عليه كان يرجو أن يجد عنها الجواب المقنع، لكنه - وا أسفاه - لم يجد في أساتذة برلين العمق الذي يبتغيه، فراح يتنقل من جامعة إلى جامعة، من برلين إلى ليبزج، ومن ليبزج إلى هيدلبرج، ومن هيدلبرج عائدا إلى برلين لما سمع أن محاضرا ناشئا هناك يجيد المحاضرة في فلسفة كانت.
وسقطت من شفتي المحاضر المجيد في غضون حديثه عبارة كأنها وردت بغير قصد؛ إذ قال: «إن أحسن المؤلفات عن فلسفة كانت هي بغير شك كتب هرمان كوهين (في جامعة ماربورج)، لكنني لا بد أن أعترف بأنني لا أفهمها.» فماذا يصنع الفتى كاسيرر إلا أن يسرع بعد المحاضرة إلى مكتبة فيشتري كتب كوهين هذا، ثم ينكب عليها انكبابا لا يلبث معه حتى يقرر مغادرة برلين إلى ماربورج ليحضر على هذا المؤلف النادر في فهمه وفي عمقه. وسرعان ما برز كاسيرر بين الطلاب، حتى لقد قال كوهين في ذكرياته عنه: «إنني أحسست من فوري أنني بإزاء طالب أعلم من أن يتعلم عني شيئا.» ذلك أن كاسيرر كان قد طالع في الفلسفة مطالعات واسعة، ووهبه الله ذاكرة لا تضيع شيئا مما حفظت، فكان في مستطاعه أن يتلو من الذاكرة صفحات بعد صفحات مما قد قرأه، لا في ميدان الفلسفة وحدها، بل كذلك من الأدب الذي كاد ألا يترك من روائعه رائعة لم يقرأها بمثل هذا الحفظ العجيب، ولم يكن هو الحفظ السلبي الذي يعي وكفى، بل هو الحفظ الإيجابي الفعال الذي يستخدم المادة المحفوظة استخداما ينتهي به إلى خلق وإبداع.
كتابه: مشكلة المعرفة
جاوز كاسيرر الثلاثين بسنتين، وإذا هو يستوقف أنظار المشتغلين بالفلسفة في أرجاء العالم كله بمجلدين يخرجهما في «مشكلة المعرفة» يستعرض فيهما - استعراض المتمكن القدير - صورة الفكر الأوروبي كيف تطور حتى بلغ قمته في فلسفة كانت . ومرت بعد ذلك خمس عشرة سنة فأتبع المجلدين بثالث يعرض فيه ما بعد كانت. ثم لما رحل أخيرا إلى أمريكا (1941م) أعد مجلدا رابعا يكمل به الرواية إلى آخر فصولها.
كتابه: الجوهر والأداء
على أن هذا المؤلف العظيم إن دل على علم غزير، فلم يكن هو المؤلف الذي أخرج عبقرية الرجل في أتم صورها. وقد بدأت دلائلها القوية تظهر في كتاب آخر أخرجه وهو في السادسة والثلاثين، عنوانه «الجوهر والأداء»، فكان هذا الكتاب أول ما ترجم للفيلسوف إلى لغات كثيرة، منها الإنجليزية والروسية. وخلاصة الفكرة هي أن حقيقة الإنسان ليست في جوهر ساكن، بل في أداء حي فعال، وذلك أن الفلسفة قد لبثت ألفي عام من قبل ذلك تأخذ بمنطق أرسطو في مدركات العقل، وهو منطق يبنى على أن العقل الإنساني إنما يصل إلى المعاني الكلية بوساطة التجريد من الجزئيات المحسوسة. فمثلا: كيف يصل العقل إلى الفكرة الكلية العامة «منضدة»؟ إنه يصل إليها بعد أن تدرك العين مناضد مفردة، منها المربع ومنها المستطيل، ومنها ما لونه كذا وما لونه كيت، فيطرح العقل من حسابه الجوانب المختلفة في مفردات المناضد، ليستبقي الجوانب المشتركة وحدها فتكون هذه الجوانب المشتركة هي المعنى الكلي لكلمة «منضدة» وهو في استعراضه لمفردات المناضد إنما يعتمد على أوجه «الشبه» التي تجعل منها أعضاء من مجموعة واحدة.
وهنا يتدخل كاسيرر باعتراضه القوي: وكيف للعقل بادئ ذي بدء أن يعرف بأن الشيء الأول الذي وقعت عليه العين هو من نوع الشيء الثاني الذي وقعت عليه العين أيضا؟ إننا إذا قلنا إنه يعرف ذلك لما بينهما من «شبه» كنا كمن يسير في دائرة مفرغة، لأن ذلك معناه أننا قد عرفنا النوع قبل أن نعرف الأفراد، ثم إذا بنا نزعم أننا لم نعرف النوع إلا بعد أن رأينا الأفراد! فلماذا - مثلا - لم أقارن المنضدة الأولى بمقعد أو بفنجان أو بقبضة من هواء؟ لماذا قارنتها «بمنضدة» ثانية إلا أن يكون في العقل قدرة سابقة على الفاعلية النشيطة التي تعرف كيف «تختار» الأشباه من الأشياء فتقارن بينها، وإذن فالعقل حقيقته فاعلية وأداء قبل أن يكون جوهرا ذا كيان قائم بذاته.
وبعد أن بسط كاسيرر هذا الجانب في كتابه «الجوهر والأداء» أخذ يفرق تفريقات دقيقة بين أنواع المدركات العقلية في شتى فروع العلم، فلكل علم مدركات أساسية يقوم عليها بناؤه: للرياضة مدركات العدد، وللطبيعة مدركات المكان والزمان والطاقة، وهكذا، فكيف تتغير البنية المنطقية في هذه المدركات من علم إلى علم، فإذا ما انتقلنا - مثلا - من العلوم الرياضية ومدركاتها إلى العلوم الفيزيائية ومدركاتها نكون قد انتقلنا من ضرب من الأداء العقلي إلى ضرب آخر، وكذلك إذا انتقلنا من العلوم الفيزيائية إلى علوم الحياة وهكذا. وإنه ليقال إن كاسيرر في تحليله هذا الدقيق العميق، كان أول من أدرك - في تاريخ الفكر الإنساني - طبيعة المدركات العقلية في مجال الكيمياء.
صفحة غير معروفة