ويتأثر بها، شأنه في ذلك شأن كل دارس للفلسفة عندئذ بغير استثناء؛ إذ الموجة الهيجلية كانت إذ ذاك قد طغت على كل ما عداها من موجات الفكر الفلسفي، سواء في القارة الأوروبية بما فيها إنجلترا، والقارة الأمريكية. لكن الحظ قد شاء لفيلسوفنا أن ينتقل إلى شيكاغو في أوائل أعوام نضج الرجولة، فما أشد ما لحظه من خلاف بين الحياة كما رآها في هذا الإقليم الأوسط وبين الحياة كما عهدها في شرقي الولايات المتحدة الذي كانت قد استتبت أموره، واستقرت على حال معينة، حتى لكأنه امتداد لأوروبا والعالم القديم. ففي شرقي الولايات المتحدة - حيث ولد ديوي ونشأ - محافظة على القديم، وإيثار للسلامة والأمن، وبعد عن المخاطرة والمغامرة، أما في هذا الإقليم الأوسط فقد رأى الثراء الطائل يجمعه صاحبه في مثل اللمح بالبصر، وقد يفقده كذلك في مثل اللمح بالبصر! ها هنا مغامرة ومخاطرة وجرأة وطموح. ولئن كان هذا كله ينتهي أحيانا بالإخفاق فهو في معظم الأحيان ينتهي بصاحبه إلى نجاح. إن الحياة هنا «مقامرة» كبرى لا «يقين» فيها، لكنها مقامرة تبنى على «ترجيح» الكسب، أوتحسب أن معلما جاء ليعلم أبناء قوم كهؤلاء، كان لينظر إلى هذه الحياة الجارفة من حوله، التي تملؤها روح الابتكار ويسودها الأمل فيما هو جديد، ثم يعلم النشء أن «الحق» واحد ثابت لا يتغير ولا يتطور؟ أي حق هذا؟ أهو الحق في عالم التجارة أم الحق في عالم الصناعة؟ فقد وفد جون ديوي على قوم لا يؤمنون بالجلوس الهادئ على كراسي ثابتة القوائم يدرسون «نظريات» لا تسمن ولا تغني، بل يؤمنون «بالعمل» اليدوي وبالسعي الدءوب الذي لا يفتر لحظة عن الإنتاج والخلق.
ألا ماذا كان لفيلسوف حساس لما حوله - وهذا هو ما كان قائما حوله - سوى أن يوائم بين الفكر والعمل؟ أكان يجوز لفيلسوف يعيش وسط هذا النجاح المزدهر، أن يقول للناس: ليكن مقياس الصواب عندكم هو ما قاله الأسلاف؟ أم كان لا بد له أن يتأثر بالواقع وقوته فيقول: بل إن مقياس الصواب هو النتائج، فما كانت نتيجته نجاحا في حل المشكلات العملية فهو الصواب. إن كل شيء في حياة الإنسان قابل للتغير، ولا مفر من تغييره إن دعت الضرورة إلى ذلك التغيير، فلا يجوز لشيء - كائنا ما كان - أن يقف حائلا في طريق الإصلاح الاجتماعي وتوفير العيش الرغد للإنسان العامل. نعم إنه لا بد من تغيير قواعد الأخلاق ذاتها إن اقتضى الإصلاح هذا التغيير، وكذلك لا بد من تغيير أسس السياسة والاقتصاد والتربية وكل شيء مما قد يظن به الدوام والثبات ، في سبيل تغيير الحياة تغييرا يجعلها أكثر ملاءمة لظروف العصر الجديد.
وإذا تصورنا الإنسان كيف ينبغي أن يكون في ظروف العصر الجديد، كانت الوسيلة لتكوينه على الصورة الجديدة هي التربية، ومن ثم انصرف ديوي باهتمامه أول الأمر إلى «التربية» يمعن النظر في أسسها وطرائفها، وما أظن أن معلما واحدا في شرق الدنيا أو في غربها لم يتأثر بالمبادئ التربوية الجديدة التي أعلنها ديوي وأشاعها، والتي قلبت وجهة النظر في هذا الميدان رأسا على عقب، فمهما اختلف المخالف له في تفصيلة هنا وتفصيلة هناك، فما أحسب أحدا يماري في الأساس العميق، ألا وهو أن يكون محور العملية التربوية هو «المتعلم» نفسه لا «مادة الموضوع» المدروس. وكان أول كتاب تربوي أخرجه ديوي هو كتاب «المدرسة والمجتمع» (1899م)
School And Society
الذي شرح فيه طرائقه التي كان يتبعها في مدرسته التجريبية الملحقة بالجامعة، جامعة شيكاغو، حيث كان مبدؤه الأساسي هو أن يجعل من تلاميذ المدرسة مجتمعا صغيرا يشبه المجتمع الكبير في حياته ونشاطه. ثم تلا ذلك كتاب آخر هو «الديمقراطية والتربية» (1916م)
Democracy and Education - وهو مترجم إلى العربية - يبين فيه أن التربية هي أن ننشئ الناشئ على سرعة المواءمة بين نفسه وبين بيئته، لا على أن يحافظ على التقاليد القديمة مهما تكن آثارها على حياته العملية الجديدة.
على أن أهم موضوع أدار جون ديوي حوله الفكر، هو تحليل عملية الفكر نفسها؛ «فالأفكار» ما طبيعتها وما أصلها؟ وكيف تطورت في عقل الإنسان من أصولها البيولوجية والاجتماعية الأولية البسيطة حتى أصبحت ما أصبحت؟ وبعبارة أخرى كان «المنطق» هو أهم ما خلفه لنا هذا الفيلسوف، فكما أن أرسطو قد خلف من بعده «منطقا» أقامه على أساس المنهج الاستنباطي الرياضي الذي يصور طريقة اليونان الأقدمين - وطريقة أهل العصور الوسطى المتدينة - فقد كان ديوي في عصرنا الحاضر من بين من أقاموا «منطقا» جديدا يصور طرائق البحث في العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية، وهو المنطق الذي أطلق عليه اسما فنيا هو «نمط البحث»، قاصدا بكلمة «البحث» هنا أن ينخرط الإنسان في مسلك عملي يعالج به موقفا مشكلا حتى ينفض إشكاله.
فلا بد لكي ينشأ عند الإنسان «فكر» على الإطلاق، من أن يكون هنالك موقف معين، رتبت فيه الأشياء على صورة من شأنها أنها لا تحقق غرضا من أغراض الإنسان - صغر ذلك الغرض أو كبر - وإذن فلا بد أن يلم صاحب المشكلة المعينة بعناصر الموقف المشكل من حوله، ثم يديرها في رأسه محاولا أن يجد لتلك العناصر ترتيبا آخر، لو رتبت به لانحل الإشكال. وبعدئذ يعود صاحب المشكلة إلى الموقف من جديد يحاول به مرة أخرى إعادة ترتيب العناصر، وهلم جرا. معنى ذلك أن «الفكر» يستحيل قيامه بغير «مشكلة» فعلية، أما أن تجلس على كرسيك وتتأمل في فراغ ثم تظن أنك «تفكر»، فأمر لا يقبله البرجماتيون جميعا، بل إن «العقل» نفسه لم يعد عندهم كائنا غيبيا قائما بذاته داخل الجسم، سواء نسبنا له التفكير حينا بعد حين، أو نسبنا له التفكير في كل حين، كلا، إن «العقل» هو نفسه نمط من سلوك بدني نلاحظ فيه أنه هو السلوك الذي يحاول أن يحقق هدفا بعينه في مواقف الحياة الفعلية.
لكن جون ديوي يعود فينفرد وحده دون سائر البرجماتيين بما يسميه هو «المذهب الوسلي» (من وسيلة)، وشرحه باختصار هو أن ليس هنالك حقيقة قائمة بذاتها أبدا، بل إن كل حقيقة إنما هي خطوة في طريق متسلسل طويل يؤدي في النهاية إلى «حل» لمشكلة معينة. وهذا الحل الأخير نفسه يستحيل أن يكون حقيقة قائمة بذاتها، بل إنه سرعان ما يصبح حلقة في سلسلة فكرية جديدة يراد بها حل إشكال جديد. فلو قلت لي مثلا: «هذا قادوم.» - مشيرا إلى آلة معينة - فقولك هذا من الناحية المنطقية عند ديوي ليس بذي بال، ما لم نكن في موقف يكون فيه القادوم وسيلة تؤدي إلى نتيجة منشودة. أما أن أعرف أن هذا قادوم وكفى، ليس قبلها شيء ولا بعدها شيء، فما هو من المعرفة في شيء. المعرفة هي معرفة وسائل لحلول، والحلول لا تكون إلا لمشكلات قائمة فعلا. ومن هنا تستطيع أن تحكم على كل هاتيك الشطحات التي يشطح بها الشاطحون ويقولون إنهم يفكرون! دون أن يكون قد صادفهم في حياتهم إشكال يقتضي بحثا وحلا! إن أمثال تلك الشطحات ليست فكرا، بل هي دوران عقيم في دائرة من لفظ أجوف.
وقد بسط ديوي «منطقه البرجماتي» تفصيلا في عدة كتب، منها كتاب «المنطق» وكتاب «البحث عن اليقين»
صفحة غير معروفة