فالإنسان رامز في شتى عصوره وفي مختلف نواحي نشاطه الفكري؛ وقد ازدادت هذه الحقيقة وضوحا في عصرنا الحاضر، فاهتمت الفلسفة المعاصرة بالرمز ودلالته، وبخاصة الرمز اللغوي في العلوم وغيرها، فهذا المبحث هو محور الاتجاه الفلسفي المعاصر الذي يطلق عليه اسم الوضعية المنطقية، أو التجريبية العلمية؛ وما أكثر الكتب والأبحاث الفلسفية التي تنشر الآن ولا شاغل لها إلا تحليل الرمز ومعناه، حتى لقد أصبح يقال - وبحق - إن الفلسفة هي علم المعنى.
الرياضة رموز، وعلم الطبيعة رموز، والفلسفة تحليل للرموز، والتفاهم في الحياة اليومية الجارية قائم على الرمز، وتقاليد المجتمع وعقائده إشارات رمزية، والأساطير رموز والتعبير عن القيم الأخلاقية والجمالية لا يكون إلا بالرمز، والأدب قوامه الرمز بالتشبيه والتصوير، والفن كله رموز؛ رموز صوتية في الموسيقى، ورموز لونية في التصوير، وأحلام الإنسان رموز.
أفيكون عجيبا بعد هذا كله، أن نصف الإنسان بأنه الحيوان الرامز؟
هذه الكلمات وسحرها
1
أي شيء أدنى إلى الصواب من قولنا بأن شهادة الميلاد لا تكون إلا لمولود جديد، وأنه إذا وجدت شهادة ميلاد بغير مولود فهي زائفة مزورة؟ وأي شيء أدنى إلى الصواب من القول بأن الرمز لا يتم معناه إلا بوجود المرموز إليه، وأنه إذا وجد رمز بغير مرموز إليه فهو إذن وسيلة خداع وتضليل؟ وأي شيء أدنى إلى الصواب من تقريرنا أن الاسم لا يكون اسما إلا إذا وجد المسمى؟ وإذا كان ذلك كله صوابا فمن الصواب كذلك أن كل كلمة في اللغة لا تسمى شيئا ولا تشير إلى شيء، هي كلمة زائفة مهما طال بين الناس دورانها؛ فالفرق بين اللفظة التي ترمز إلى مسمى واللفظة التي لا ترمز هو الفرق بين اللفظة التي «تعني» شيئا واللفظة التي «لا تعني»، وهو فرق شديد الشبه بما يفرق ورقة النقد التي تستند إلى رصيد فتكون ورقة ذات قيمة حقيقية من ورقة النقد التي لا تستند إلى مثل ذلك الرصيد فتكون ورقة باطلة.
إني لأقول مثل هذا الكلام الجلي الواضح، أقوله وأكتب فيه وأحاضر، ولا أخلو عندئذ من خجل؛ إذ أراني أقول البدائه؛ لكن ما أشد عجبي أن ينهض كاتب فيقول لقرائه: احذروا مثل هذا الكلام لأنه مود بما لنا من معان جليلة سامية بذلت الإنسانية في بنائها جهدا جهيدا! وأن يتصدى كاتب آخر للمعارضة قائلا: إن مثل هذه الدعوة تثير الريبة في صاحبها، وتدعو «إلى أكثر من علامة استفهام!» وأن يحاضر أستاذ جليل في قاعة عامة لم يحسن اختيار زائريها فيقول، لمن لا تعنيهم الفلسفة في كثير أو قليل: إن مثل كلامي هذا يصلح للغرب ولا يصلح للشرق! كأنما أراد بذلك أن يعفي أهل الشرق من قيود العقل فيما ينطقون به وما يكتبون!
ولذلك فإني أطلب مغفرة القارئ إذا عدت إلى البدائه الواضحة أقولها وأكررها؛ فمن ذلك أن الشيء لا بد أن يوجد أولا؛ حتى يجوز لنا بعدئذ أن نطلق عليه اسما يسميه ويميزه مما عداه، وهذا هو بعينه الأساس الذي نقيم عليه تعليمنا اللغة لأطفالنا؛ فأشير إلى شيء قائم على مرأى من الطفل قائلا له: «شجرة»، ولولا أن هناك الشجرة التي أشير إليها لذهبت لفظتي عند الطفل عبثا؛ إنه في سذاجته وبفطرته ينظر إلى طرفين: المسمى المشار إليه في طرف، والصوت الذي أنطق به في طرف آخر؛ وعندئذ يقرن الشيء المرئي بالصوت الذي يسمعه، أو يقرن المسمى باسمه، أو يقرن المرموز إليه بالرمز الذي يشير إليه، أقول: إنه يقرن هذا الطرف بذلك، ثم يربط بينهما، حتى إذا ما نطق بالصوت وحده بعد ذلك كان كافيا لاستثارة الصورة التي كان هذا الصوت قد ارتبط بها ؛ وبهذا وحده يجوز لنا أن نقول: إن كلمة «شجرة» لها عند الطفل معنى.
ويكبر الطفل، وتنمو حصيلته من الألفاظ، لكل لفظة منها شيء يقابلها في عالم الأشياء، حتى إذا ما سمع بعد ذلك لفظة لم يكن قد سمعها من قبل سأل: ما معناها؟ وهنا لا يكون أمام مرشده إلا أحد طريقين: فإما أن يشير له إلى الشيء الذي يسميه هذا اللفظ الجديد، وإما أن يذكر له مرادفا من الألفاظ المعلومة له؛ ليتمم لنفسه الدورة، بأن يستعيد صورة الشيء الذي عرف فيما مضى أن ذلك اللفظ المرادف يعنيه.
فماذا لو صادف الناشئ كلمة لا يعرفها ، وسألنا: ما معناها؟ فلم نجد شيئا نشير له إليه ليكون هو معنى هذه الكلمة المجهولة، ثم لجأنا إلى لفظ آخر يساويه، فسألنا الناشئ من جديد: وما معنى هذا اللفظ؟ فنظل نبحث له عن ألفاظ مساوية، ويظل يسأل: ما معناها؟ أفلا يجدر بنا عندئذ أن نتنبه إلى أن مثل هذه اللفظة التي لا تنتهي بشرحها وتفسيرها إلى مسمى مشار إليه في عالم الأشياء هي لفظة بغير سند، وأنها إذن زائفة لا تسمى شيئا؟
صفحة غير معروفة