وذلك له أثره في فصاحة أهل البصرة وسلامة لغتهم. ثم كانت هناك رحلات متبادلة، فعلماء البصرة دائمو الترحال إلى البادية والجزيرة يتلقون عن أعرابها، والأعراب دائمو الورود إلى البصرة لشئون معايشهم، فقد ضرب في بوادي الجزيرة الأصمعي وأبو عبيدة ويونس وأبو زيد والخليل وغيرهم، ثم كانوا يتحرون في الأخذ: أما العربي فيتحرون فيه سلامة لغته وسليقته١، وأما الراوي فالصدق والضبط، ثم كانوا لا يعتدون بالشاهد إذا لم يعرف قائله أو لم يروه عربي يوثق بلغته٢، ومن هنا عجت بلدهم بفصحاء الأعراب المعروفين في كتب الأدب الذين كانوا من مفاخر البصرة التي يعتدها البصريون.
أما الكوفة فهي أدخل في العراق وأقرب إلى الاختلاط بالأعاجم، ولغة أعرابها ليست لها سلامة لغة أعراب البصرة، فأكثرهم يمن وبها قليل من قبائل أخرى، واليمن -كما رأيت في الكلام على الاحتجاج- لا يحتج بلغتها لتغيرها بالاختلاط بالفرس والأحباش، ثم بين الكوفة وجزيرة العرب صحراء السماوة الشاسعة؛ فلذا لم تكن رحلات علمائها إلى الجزيرة كرحلات علماء البصرة، والكسائي الذي ارتحل لم يرتحل إلا لما تتلمذ على الخليل وسأله، فأرشده إلى الرحلة، وقد مر بك أن أبا
_________
١ استضعف أبو عمرو بن العلاء فصاحة أبي خيرة الأعرابي لما سأله: كيف تقول: "استأصل الله عرقاتهم! " ففتح أبو خيرة التاء، فقال له أبو عمرو: "هيهات أبا خيرة، لان جلدك" الخصائص ٢/ ١٣.
٢ في كتاب سيبويه "١٠٥٠" شاهدا، خمسون منها لم يعرف قائلوها، فاعتذروا بأن سيبويه وثق برواتها. ومع هذا كان بين هذه الخمسين ما وضع وضعا، وهو نزر يسير لا يعتد به.
1 / 65