7
مرض التدرن مستوطن بشكل مزمن ولم يصب الرئة فقط كما في حالتي، إنما الإصابات توزعت على أجزاء أخرى من أجساد السجناء، ولا أعرف ماذا تسمى حالتهم من الناحية الطبية، إنما بحسب الشائع وقتها أن جميع هذه الحالات تندرج تحت اسم ال
TB
وهو مختصر للفظ الإنجليزي
Tuberculosis . رأيت البعض يشكو من إصابة في الرقبة وآخر في العظام وإصابات أخرى كثيرة مخيفة ومرعبة في مظهرها الخارجي. البعض كان طريح فراشه لفترة طويلة لا يقوى على مغادرته، وبعض آخر لقي حتفه جراء تدهور صحته وقلة الدواء.
الدواء قليل جدا ولا يمكن أن يكون علاجا حقيقيا لمثل هذا المرض؛ إذ لا يعدو عن كبسولات من مضاد حيوي وحبة فيتامين وقرص كأنه قطعة طباشير كنت أتجرعه مكرها. كمية الدواء لم تكن تكفي كل المرضى، وكان من اللازم أن يقسم على المرضى بطريقة عادلة وليس بالتساوي، وكما في كل الزنزانات والأقسام الأخرى، كان لدينا مراقبون وخدمات؛ لأنه عمل تنظيمي لتسيير الأمور وليس إجراء أمنيا بالأصل، وفي حالتنا هنا في زنزانة الحجر الصحي كان المراقبون والخدمات لا يقدمون معلومات للأمن كما في الأقسام الأخرى، بل كانوا بالعكس تماما يعملون لصالح إخوانهم السجناء ونظم أمورهم بما ييسر عليهم مصاعب السجن الجمة.
وضع شباب الخدمات نظاما عادلا حكيما لتوزيع الأدوية بمنح المريض الأشد ضررا دواء منتظما حتى يتجاوز مرحلة الخطر، وعند تحسن صحته تقلص الحصة تدريجا حتى يتجاوز مرحلة المرض ويصبح وضعه مماثلا لحالة السجناء الآخرين فتقطع عنه حينذاك . عندها يكتفى بمنحه إياها في فترات متفاوتة بحسب تطورات وضعه الصحي. هذا النظام لم يكن صالحا أو مقبولا من الناحية العلمية، لكن كان بيننا طبيب - وهو سجين مثلنا - ومريض هو الآخر بالمرض نفسه، هو من اقترح هذه الطريقة لتنظيم توزيع العلاج وللحفاظ على حياة أكبر عدد ممكن من السجناء المصابين بمرض السل.
هذا الطبيب نفسه كان يوصينا بشدة على تناول الحصة الغذائية كاملة؛ لأنها الطريقة الوحيدة التي يسري معها مفعول الدواء في البدن بحسب قوله. هذه الوصية جاءت لأن فقدان الشهية كان العرض الرئيسي لدى كل المصابين، وبما أني واحد منهم فلم أكن أستسيغ تناول الطعام وأجد نفسي مكرها على تناوله، مع أن الطعام كان أفضل نسبيا من الأقسام الأخرى حتى إنه كانت تصلنا فواكه بين الحين والآخر. وكان السجناء رغم شدة المرض الذي يضربهم وقسوة الظرف الذي يعيشونه، إلا أنهم متعاونون فيما بينهم، ويعطون الحصة الأكبر من هذه الفواكه لشديدي المرض؛ لأنه بإمكانهم تقبلها دون باقي الطعام الذي كان تناوله أمرا شاقا. ومن العسير بمكان صد رغبة الامتناع عن الطعام لدى مريض التدرن، لكن كان لا بد من المحاولة، ويجب مقاومة هذا العرض المميت وهكذا بذلت كل جهدي على ما في الأمر من صعوبة بالغة.
استنهضت كل طاقتي في الممانعة، وبدأ يظهر تحسن طفيف في صحتي وتلك علامة مشجعة على فعل العقار في بدني وعلى سلامة طريقة العلاج المقترحة من الطبيب. ولحسن الحظ كان بيننا رجل نذر نفسه لمعاونة المرضى يتابع أحوالنا ويبذل جهودا عظيمة ويقدم خدمات لا يمكن إلا لمتدرب في معهد تمريض عال فعلها، مع أنه في حقيقة الأمر كان عسكريا من أصول ريفية ولم يتلق تعليما كافيا. كان يواصل حنوه علي ومساعدتي كما مع الآخرين على تجاوز الأزمة ويحثني كثيرا على الأكل قائلا لي: «حتى لو أكلت الأكل وتقيأته فعليك أن تواصل الأكل؛ لأن لا بديل عنه وهو العلاج الأمثل والوحيد.»
هذا الرجل وأمثاله وشباب الخدمات كانوا يقدمون جهدا عظيما ويعملون بإخلاص كبير لمساعدة السجناء المرضى والآخرين المحتاجين للرعاية والعناية. أعمال لا ينبغي إلا أن تذكر باحترام عظيم. كانوا يعينون بعض المرضى حتى على إخراج الفضلات من أبدانهم؛ لأن عضلاتهم أصيبت بالضمور الشديد ولم يعودوا قادرين على أداء أي من هذه الأفعال. أما تنظيف المرضى وغسل أرديتهم وفرشهم وتخليصها وإياهم مما كان يخرج منهم من بول وغائط فكان عملا يوميا روتينيا، يصاب بالدهشة كل من يراه لروح العطاء العظيمة التي يمتلكها هؤلاء الشباب، وقدرتهم الهائلة على التضحية والإيثار بلا أي مردود يأملونه أو فرض يدفعهم لذلك سوى مثل إنسانية تتوهج في قلوبهم البيضاء.
صفحة غير معروفة