من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد

ناهض الهندي ت. 1450 هجري
48

من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد

تصانيف

كان يتفق مع المجرم المحكوم بالإعدام على مغادرة البلد فور إخراجه من السجن؛ وبذلك تختفي آثار الجريمة، غير أنه في إحدى المرات استسهل أحد المجرمين المحكومين بالإعدام الأمر ولم يغادر البلد على الفور حسب الاتفاق، ولحسن الحظ بينما كان يمشي في أحد الشوارع المهمة في العاصمة، لمحه ضابط شرطة جنائي كان قد أجرى التحقيق معه بنفسه، فاستوقفه وسأله عن كيفية خروجه من السجن وهو محكوم بالإعدام؟! أثارت أجوبته الهزيلة المرتبكة ريبة ضابط الشرطة فألقى القبض عليه في الحال لارتيابه بأنه قد فر من السجن. وعند التحقيق معه اكتشف المحققون الأمر الأدهى حين علموا بأمر استبداله بشخص آخر من السجناء السياسيين بالتعاون مع ضابط الأمن المسئول عن السجن الذي كنت فيه. وتبين فيما بعد أن هذه ليست الجريمة الوحيدة، بل واحدة من سلسلة جرائم وقعت لأشخاص كثر.

أصابنا العجب بعد سبع سنوات حين واجهنا العالم الخارجي لأول مرة، ونحن نسأل عن سجناء كانوا معنا؛ لأن الإجابة الصادمة كانت تأتي بأن جثثهم قد سلمت لأهاليهم بعد تنفيذ حكم الإعدام بهم، وآخرون أصلا لم تصل جثثهم إليهم. فقط صودرت شهادة الجنسية وهويات الأحوال المدنية من عوائلهم وأبلغوا بإعدامهم شفهيا وظلوا مجهولي المصير حتى يومنا هذا. إثر هذه الفضيحة الإجرامية أبعد هذا المجرم من وظيفته كمشرف على السجن الذي كنا نحتجز فيه، مما خفف علينا بعد إبعاده كثيرا من جرائمه الوحشية التي كان يرتكبها بشكل متواصل. ومع ذلك لم يتلق عقابا كبيرا؛ لأن أرواح السجناء السياسيين لم تكن ذات أهمية بالنسبة للسلطة القمعية، وربما أيضا لقرابته من رأس السلطة. سمعنا فيما بعد أنه أبعد إلى السلك الجنائي كعقوبة له كما كان يفعل بالعادة مع ضباط الأمن المغضوب عليهم من السلطات الأمنية العليا.

في تلك الليلة دخل هذا الضابط إلى السجن وكانت ليلة عيد، طلب من الخدمات والمراقبين أن يقدموا أسماء السجناء الذين كانوا قد امتنعوا عن الأكل والشرب في هذا اليوم لأسباب دينية. ولم يكن طلبه سؤالا، بل كان يريد أشخاصا ليعذبهم حتى وإن لم يصوموا وبعضهم كان بالفعل كذلك. إلا أن الخدمات والمراقبين كانوا يحملون من الجبن والخوف من العقاب ما لا يستطيعون معه أن يردوا على طلب هذا الضابط المتهور المجنون المهووس بالتعذيب، خصوصا أنهم قد علموا بنيته الأكيدة بإنزال عقاب شديد بالسجناء، حين جاء مع مجموعة من رجال الأمن مجهزة بهراوات خاصة لإقامة حفل تعذيب في تلك الليلة. وبدأت المجزرة ، كل من يرد اسمه فهو مذنب وإن أثبت بألف بينة ودليل أن لا ذنب له، وهو الأسلوب ذاته الذي كان يجري في التحقيق، التهمة هي الذنب.

خلال دقائق جلس في الفناء العريض عدد كبير من السجناء، من زنزانتا فقط اثنا عشر شخصا. بدأت حفلة تعذيب لمدة ساعة تقريبا، يمر أربعة من رجال الأمن ويضاف إليهم أربعة آخرون من الخدمات ينزلون أقصى ما يملكون من قوة عندهم على السجناء، بعصيهم وبالهراوات والكيبلات الكهربائية ضج المكان بصرخات الألم وسط صمت وخوف ملأ المكان كله. لم يتوقفوا عن الضرب حتى بعد أن أغمي على عدد من السجناء، انتهت الحفلة في فصلها الأول عندما شعر الجلادون بالتعب والإرهاق لتبدأ فصلا جديدا. حيث أفرغت زنزانة كانت مخصصة للمصابين بمرض التدرن الرئوي، تم نقلهم إلى قسم خاص سوف أحل عليه قريبا، ليوضع في هذه الزنزانة كل هؤلاء المتهمين بالعصيان، بزحام رهيب وإن كنت لا أدري كم كان عددهم بالضبط أو تقريبا. لم يكتف هذا الضابط بهذا العقاب، بل أمر بوضع بطانيات على القضبان الحديدية ليسد عليهم كل نور، وخفضت حصتهم من الطعام والماء إلى النصف، وهي حصة بالأصل لم تكن تكفي لسد الرمق، وظلوا على هذا الحال عدة أسابيع. الغريب في الأمر أنه بعد أن أخرجوا من هذه الزنزانة لم يكونوا فرحين جدا كما هو المتوقع، بل بدا على بعضهم الأسف حيال ذلك. وعندما سألت أحدهم عن سبب هذا الشعور الغريب، قال لي: «كان مكانا آمنا لا يوجد فيه مراقب متعاون مع الأمن، والبطانيات تحجب الرؤية عن رجال الأمن والخدمات؛ لذلك كنا نتصرف بحرية كبيرة، نتكلم بما يحلو لنا ونفعل ما نشاء. أما نقص الضوء والأكل والشرب فهو أهون بكثير من هذا الرعب اليومي جراء ملاحقة عيون الخدمات ورجال الأمن لنا ليل نهار.»

بصراحة كان كلامه على غرابته مقنعا للغاية. هذا الإحساس بفقدان الأمن صار دافعا لكثير من السجناء للمخاطرة والقيام ببعض التصرفات للحصول على فرصة كهذه.

3

بعد هذه الليلة المرعبة تناقص عددنا في الزنزانة إلى ثلاثة وثلاثين سجينا، كانت انفراجة كبيرة في المنام لليلتين تقريبا، وبسبب هذا النقص الكبير في العدد حشر معنا سجناء جدد ممن وصلوا حديثا من المحكمة، وعاد العدد إلى طبيعته تدريجيا خلال أيام قليلة، إلى أن رفعت العقوبة عن المعاقبين الذين طلب منهم العودة، كل إلى زنزانته التي خرج منها، وفي لحظة واحدة قفز عددنا إلى سبعة وخمسين سجينا وأصبحت الزنزانة مكتظة بشكل مثير للاشمئزاز؛ لأنه لم يعد هناك من مكان للنوم ولا حتى للجلوس، وضاعف من تقززنا حصول حادث غريب تلقينا بسببه عقوبة جماعية قاسية.

كان رجال الأمن يغيرون الزنزانات لسبب أجهله، يأتون ويطلبون منا أن نخرج كلنا ونذهب إلى زنزانة أخرى فيما يأتي سجناء آخرون إلى زنزانتنا، وهكذا كل الزنزانات الأخرى. انتقلنا إلى زنزانة جديدة تقع في ظهر قسم آخر يوجد فيه سجناء سياسيون يعيشون بمثل ظروفنا، يسمى «ق2»، اختصارا لاسم «القاطع المغلق الثاني»، ونحن في «ق1». عندما ننتقل إلى زنزانة جديدة نبدأ بالبحث عن ثقب صغير بين الجدران لنحشر فيه مسمارا أو ما يشبهه لنعلق به «عليجة» تحوي كل أملاكنا من ثياب أو أشياء أخرى.

لم يكن من السهل إيجاد الثقوب لحشر الشناق الحديدي المستخدم عادة لتعليق أكياس صغيرة نضع فيها أغراضنا، وكان لا بد من الاستعانة بشيء ما للطرق والحفر قليلا بين قطعتي البلوك حتى يحصل على موقع ثابت نوعا ما. كان أحد السجناء يملك حذاء قديما، لا يصلح للانتعال أبدا، إلا أنه يحتفظ بكعب صلد ينفع كمطرقة. بعد أن انتهينا من استعماله؛ ولأن عددنا كان كثيرا جدا وامتلأت كل أنحاء الزنزانة بالبشر والأغراض، اخترع صاحبه طريقة مبتكرة للاحتفاظ به؛ إذ ربطه بحبل صنعه من أسمال بالية وأخرجه من فتحة التهوية الوحيدة في الزنزانة ليتدلى في الخارج، وليتمكن من سحبه ثانية عند الحاجة.

في المساء جاء رجل أمن مع أحد الخونة المتعاونين من «ق2» ليلقي علينا تهمة الاتصال مع السجناء في «ق 2»، وادعى أنه رأى يدا تمتد من فتحة التهوية في زنزانتنا تلوح إلى شخص ما في قسمه، صار علينا وفق هذا الاتهام تحديد اسم الشخص المتهم بالتخابر من زنزانتنا وعليه أن يعرف باسم الشخص الآخر في الزنزانة المقابلة. أصبنا بالذهول من هذا الموقف الغريب وكيف سنخرج منه، ولم تفد كل محاولاتنا بإقناع رجل الأمن بأن أحدنا أخرج الحذاء من فتحة الشباك ليس إلا ورفض هذا التبرير ولم يلتفت إليه.

صفحة غير معروفة