من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد

ناهض الهندي ت. 1450 هجري
47

من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد

تصانيف

في الليلة الأولى كانت إلى جانب وجهي قدما شاب برأس حليق مع صلع خفيف وتبدو على وجهه آثار واضحة من عصبية وتوتر دائمين يعكسها جبينه المتغضن، وكالآخرين كان يرتدي ثيابا خلقة. ذهبت في غفوة عميقة من إرهاق المرض ويوم المحاكمة الطويل وعلى حين غرة شعرت برفسة قدم بشرية تركلني على فكي، فتحت عيني لأجد الدم يملأ فمي. فتحت عيني مرهوبا خائفا مصدوما متوقعا الأسوأ قبل أن أتبين أن صاحبي الممتد إلى جنبي ممن يحلم كثيرا أثناء نومه، ويتحرك منفعلا مع كوابيسه المزعجة، وشاركني كابوسه هذه الليلة برفسة قوية. عدت لأرقد على وسادتي التي صنعتها من حذاء متهرئ كنت أنتعله بانتظار طلوع النهار من جديد ليسمح لنا بالحركة المحدودة من جديد في الزنزانة.

2

عند الصباح دخل رجال الأمن إلى قاعة السجن مع توزيع وجبة الطعام الأولى وبأيديهم هراوات، وقف أحدهم أمام الزنزانة بصحبة سجين مسئول عن توزيع الأكل (يسمى خدمات) فتح الزنزانة، ليطلبوا من شاب نحيف بجسد ضئيل لا يتجاوز عمره السابعة عشر عاما أن يخرج إلى الممر العريض واقتادوه إليه بعنف، عاد إلينا بعد ربع ساعة تقريبا بعد أن تم تعليقه من أطرافه العليا في حالة تشابه التعذيب الذي كنا نتلقاه في مديريات الأمن لإجبارنا على تقديم الاعترافات. لا أخفي شعوري حينها بخوف شديد اقترب من الرعب؛ فقد استذكرت مراحل التعذيب في التحقيق والعذابات التي تحملتها يومئذ وكنت أظن أن السجن لا يوجد فيه تعذيب ممنهج. من الممكن أن أعاني في السجن من ضيق في مكان أو نقص في طعام وشراب - كما كان يحصل في المعتقل بعد انتهاء التحقيق وربما قد أنال ضربة من هذا وهراوة من ذاك - لكن تعذيب منهجي لم أخاله موجودا. يبدو الأمر الآن كما لو كان عودة إلى مربع أول يأبى أن يكون له حدود ينتهي فيها بما يحمله من عذاب وآلام ولا يمكن لأي أحد أن يغادره؛ لأنه لا يوجد مربع ثان.

حاولت أن أستفهم عن سبب هذا التعذيب الصباحي غير المبرر، لأصدم بأنه لا يوجد سبب، ومع غياب السبب صار واضحا أن لا شيء يمنع من نزول العقاب بأي سجين، مهما حرص على أن يبعد الأذى عن نفسه. كان خوفي مبررا جدا؛ لأن السبب الحقيقي لتعذيب هذا الشاب اليافع لم يكن سوى أنه لا يروق لأحد رجال الأمن. ففي يوم ما دخل رجل أمن إلى قاطع السجن ووقف أمام الزنزانة ولسبب ما أشاح هذا الشاب بوجهه عنه بلا قصد، لم تعجب هذه الحركة رجل الأمن ولم يقبل عذره بعدم التعمد، فاشتدت العداوة من رجل الأمن لهذا السجين وكان عليه أن يدفع ثمن هذه العداوة بين الحين والآخر، هذه الغلطة التي لم تغتفر، لم أعرف شرعة أو قانونا تعدها ذنبا أو خطيئة إلا في ذاك اليوم.

جسدي محطم من المرض وقواي خائرة بالكامل وصرت لا أقوى على الحركة العادية، وكان هذا سببا حقيقيا آخر لتخوفي مما رأيته للتو؛ لأني لم أعد بقادر على تحمل التعذيب ثانية. فزعت كثيرا من هذه القصة وكان الخوف والفزع واضحا على وجهي لأنها مفاجأة مرعبة ونموذج مخيف لما ستكون عليه قادم الأيام.

الزنزانة التي وضعت فيها كانت واحدة من أسوأ الزنزانات، لوجود مراقب فيها بأخلاق وضيعة للغاية، جبان رعديد لحد لا يوصف، يقدم معلومات أمنية عن السجناء الآخرين إلى الأمن بطريقة طوعية من أجل لقيمات وشربة ماء زائدة. المراقبون على الزنزانات كان تعيينهم يتم من قبل الخدمات بموافقة الأمن، وكان تقريبا جميع الخدمات والمراقبين في الفترة التي دخلت فيها إلى السجن من المتعاونين مع الأمن تقريبا، البعض منهم - خصوصا الخدمات - كانوا يقومون بكل الأفعال الخسيسة حتى تصل بهم الخسة والنذالة إلى تعذيب السجناء بأيديهم، وباعوا أنفسهم وضمائرهم للأمن بشكل كامل، بل كانوا أشد قسوة منهم في بعض الأحيان. كل ذلك كان مقابل أجر زهيد، وهو أن يناموا خارج الزنزانات المكتظة في مكان أكثر راحة بقليل مما نحن فيه، ويأكلوا من الأكل البائس نفسه الذي يقدم لنا لكن بحصة أكبر. مقابل هذه المنح الوضيعة كان عليهم أن يراقبوا السجناء ليل نهار على كل صغيرة وكبيرة، ويتولوا بأنفسهم تقديم المعلومات عن أي مخالفة ولو كانت صغيرة لإنزال العقاب المر بالسجناء. الغريب في الأمر - والذي صدمني كثيرا - أن عدد المنافقين لم يكن قليلا؛ إذ في زنزانة يسكنها خمسة وأربعون شخصا كان هناك متعاونان بصورة علنية واضحة لا شك فيها ولا لبس، ينضم إليهما آخران مذبذبان كانا محل خشية سجناء الزنزانة، ولربما هناك شخص خامس لم تسنح له الفرصة لفعل ذلك لا يساعده وضعه الجسماني لأداء هذه المهمة الحقيرة. وبحساب الرياضيات كانت نسبة الخونة المؤكدة تقارب الخمسة بالمائة، وهذا الحال يسري تقريبا على كل الزنزانات الأخرى، وأقدر أن أقول: إن نسبة الخمسة بالمائة كانت فعلا هي نسبة الخونة من المتعاونين ممن جاهروا بخيانتهم العلنية وصاروا بمواجهة كل السجناء في عداء علني له قصص كثيرة لاحقة. إلا أن المفارقة تكمن فيما حصل لاحقا، فرغم تبدل الأحوال بعد عقود من الزمان وانقلابها رأسا على عقب، فإن أيا من السجناء لم يقم بأي عمل عدائي انتقامي ضدهم، كما كانوا هم يفعلون مع السجناء في تلك الزنزانات.

كنت متوجسا جدا في أيامي الأولى في الزنزانة ومع أني خبرت سكانها جيدا، إلا أن الحذر كان سمة لازمة في جميع أحاديثي، وحرصت أن تكون سطحية جدا لتبعد أي شبهة عني. فوجئت بشيء كنت أملكه ولم أكن أحسب أنه سينفعني كثيرا، بل ويمنحني حصانة وعصمة من وشاية المخبرين؛ إذ عندما دخلت السجن كان معي قليل من النقود حصلت عليها من مواجهة أهلي في المعتقل، ولم أك أخال أنها ستنفعني بشيء أبدا في هذا المكان المقفل. ولذا فوجئت عندما علمت أن رجال الأمن يأتون بين الحين والآخر ويسمحون للسجناء باستخدام ما عندهم من أموال قليلة لشراء علب الدخان والحليب المجفف ومعجون الأسنان وأشياء أخرى يسيرة. كانت السجائر هي المادة الأغلى والأنفس عند السجناء وإليها تشرئب الرقاب وتلوى الأعناق، ومطمع دائم للمراقب وأتباعه ولا سبيل للوصول إليها إلا عبر أموالي؛ ولذا صارت استراتيجية المراقب المحافظة على علاقة طبيعية معي؛ لأن خلاف ذلك يعني حرمانا منها. وكان حريصا على إبعادي عن أنظار رجال الأمن وأذاهم خشية أن أنقل إلى زنزانة أخرى فيضيع الكنز البورجوازي من بين يديه.

رغم ذلك لم تشجعني هذه الحصانة على التهور ولا على التفريط بسلوكية توخي الحذر الشديد والاقتصاد في العلاقات والأحاديث مع رفاق الزنزانة بشكل عام. بالطبع كنت أتجنب المراقب تماما وأتحاشى أي تطور للعلاقة معه. أحد السجناء كان يتقرب إلي بتملق شديد ووضع نفسه في منصب أمين صندوق السجائر التي أشتريها، كان يتوفر على قدرة هائلة على الكذب واختلاق الأحداث والوقائع والأشخاص ولا يكاد يفتح أي موضوع للحديث، مهما كان الموضوع غريبا وبعيدا عن عالمنا إلا وأظهر لنا أن له صلة عميقة به، وأنه مشارك بهذا الحدث بطريقة أو أخرى. في يوم ما طرح حديث عام، وذكر أحدهم لسبب - لا أذكره الآن - دولة إريتريا التي كانت حينها ترزح تحت السيطرة الإثيوبية، فانبرى هذا الرجل وقال: هل تعرفون من فجر الثورة الإريترية ضد الاحتلال الإثيوبي؟ لم يرد عليه أحد لأنه موضوع لا يستأثر باهتمام أحد، وبصراحة لا أعرف من فجر هذه الثورة حتى هذه اللحظة، انتظرنا جوابه الموسوعي ليقول لنا: إن ابن خالته جاسم قد فعل ذلك! لا تنقطع بطولاته وبطولات عائلته إلا حين يدخل رجل الأمن إلى القسم، وحتى قبل أن يقف رجل الأمن قبال زنزانتنا كان صاحبنا هذا يتحول إلى دجاجة مسكينة فقدت صوتها من الرعب كأنها سمعت وطء نعال من يحبسها في القفص جاء ليذبحها ولا أدري كيف كان سيكون حاله لو رأى عصا الجلاد.

تقريبا بعد عشرة أيام من دخولي السجن وعند غياب الشفق تماما، دخل ضابط أمن معروف بقساوته ليرتكب مجزرة بشعة. هذا الضابط الوحش يقال إنه ابن شقيقة نائب الدكتاتور ولم يكن سهلا بالنسبة لي التأكد من دقة المعلومة، إلا أنه كان يحمل شبها غريبا به، إضافة إلى انحداره من المدينة نفسها؛ ولذا لا أستبعد صحة المقولة. عرف هذا الضابط ببشاعة ظلمه وبارتكابه لجرائم تعذيب كثيرة بحق السجناء، كنت شاهد عيان على بعضها. إلا أن أبشع جرائمه كانت في استبدال السجناء السياسيين ممن قضوا محكوميتهم من صغار السن بمجرمين عتاة محكومين بالإعدام مقابل رشا مالية. ولم يتفطن أحد لهذه الحيلة التي كان يقوم بها هذا الوحش؛ لأن المحكومين من أمثالنا كانوا محرومين من مواجهة الأهل ومن كل حقوقهم، وأخبارهم مقطوعة تماما ولا يعرف عنهم شيء وكانوا يعدون من الأموات.

لذا أضحى من المستحيل أن يفكر أحد بالسؤال لمعرفة مصير ابنه؛ لأن المعتقلين والسجناء السياسيين خط أحمر لا يصل إليه أحد إلا وعرض نفسه لعقاب صارم. لهذا السبب استسهل هذا الضابط استبدال السجناء السياسيين بمجرمين محكومين بالإعدام لارتكابهم جرائم جنائية. كان متأكدا من أن لا أحد سيجرؤ على السؤال عما يجري ومستعينا على ما يبدو بصلة القرابة بشخصية قوية في الحكم في إرهاب الآخرين.

صفحة غير معروفة