نعم، كنت أعرف أن الظلم فاحش لكن المشهد كان أكثر مما يستوعبه خيالي، وسوف يكون واحدا من معاناة الأيام القادمة، بل السنين القادمة بكلمة أدق. ورغم الأحاديث القصيرة التي أجريتها أو سمعتها في فناء تلك القاعة المنخفضة عن مستوى أرض المعسكر الذي كانت فيه، إلا أني أدركت أننا سوف نقف أمام قاض لا يفرق بين أعمى وبصير، وليس له من الأمر شيء سوى النطق بجمل كتبها غيره وتبرع هو للتلفظ بها سعيا للوقوع يوما تحت واحدة منها من حيث لا يشعر وقد حصل له ذلك بالفعل.
ومع أن رائحة الظلم كانت في كل زاوية تخنق فضاء القاعة الجرداء من الأثاث إلا من مروحتين معلقتين على علو شاهق، إلا أن الأنانية وعدم الإحساس كان يمكن أن يرى ماثلا في كثير من حركات وإيقاعات بعض الحمقى والضعفاء ممن كان يحسب على المعارضة السياسية، وهو لا يفقه حرفا واحدا من أبجديتها. فبينما كانت الأحكام تصدر تباعا وترسل إلى الموت المعتقلين زرافات ووحدانا، وفرقا أخرى إلى السجن بلا ذنب مقترف. كانت هناك مجموعة من المعتقلين تقفز مهللة بمجد القائد، وهي تهبط طائرة من باب المحكمة الداخلي المطل على الفناء الداخلي وهي تصرخ يحيا العدل. أي عدل هذا الذي رأيتموه وأنتم ترون إخوة معكم يساقون للموت أو السجن؟!
هل ينتصب ميزان العدل مستويا فقط لأنكم ظللتم أحياء، ولو غرق الكون كله في بحر الظلام. لم يخف أحد رفاقي استنكاره الشديد وانزعاجه المفرط من تلك الصرخة الحمقاء وعلق بصوت عال مستهجنا هذا الذل المقرف. كان أمرا مريعا فعلا أن تسمع هذه الصيحة من شخص صعد للتو حافي القدمين مجردا من كل حق مدني وإنساني، بل ومن كل شيء يملكه، حتى ملابسه الداخلية سلبوها منه ويرجع إليك من عين المكان الذي اغتصب فيه يترنم ويتغنى بعدله. إن هذا المنادي بهذا التملق الغبي ليس بأحمق وحسب، بل إنه وأمثاله هم من مكن العتاة المجرمين؛ لأنهم كانوا جيوش الذل التي يحارب الطغاة بها الأحرار.
أذكر أن الحاكم العسكري كان يحاول أن يضفي على جلسته الصورية شكليات قانونية ليظهرها وفق المقاييس؛ فسألنا، وبالتأكيد سأل كل المتهمين الذين مروا عليه قبلنا وبعدنا هذا السؤال نفسه: «هل عندك محام؟»
والإجابة المعتادة تكون بالنفي! فمن أين يتأتى لمتهم محروم حتى من رؤية الشمس أن يوكل محاميا. لكن عندما سأل الحاكم أحدنا رد عليه بغير المعتاد، بل بجواب ساخر: «سيدي، هو آني نعال ما عندي، من أين آتي بمحام؟»
وطبعا امتلأت بعدها أذنا صاحبنا - كما آذاننا - بحفنة ألفاظ كلها زجر وسباب.
الثياب الرثة والإعياء والشحوب وآثار التعذيب البادية على كل أحد لم تكن تحتاج إلى نباهة كثيرة للتعرف عليها، بل حتى أغفل مغفلي الدنيا كان له أن يعرفها من أول لمحة. ولا يحتاج لإدراك ذلك ولا حتى إلى نظرة واحدة، ليعرف أي قسوة بالغة تعرض لها السجناء، ومع ذلك كان الحاكم العسكري يبدي استغرابه عندما يرفض السجناء التهم الموجهة لهم، ويزدري إنكارهم الاعترافات المدونة بقولهم إنها انتزعت تحت التعذيب. وقد بالغ في إبداء سخريته عندما أنكر أحدهم الإفادة الموجودة أمام الحاكم، فقال له صاحبي: «هل تعرف يا سيدي (هكذا كنا نجبر على مخاطبة الضباط والمسئولين الكبار) لو أنك أنت بنفسك تعرضت للتعذيب الذي تعرضت إليه، لاعترفت بأي تهمة توجه إليك حتى لو كانت الانتماء إلى البوليساريو.»
لم أجد وصفا لتلك المحكمة يليق بها ويحاكيها سوى أنها تشبه لعبة الروليت الروسي ولكن بالمقلوب. أسطوانة كلها محشوة بالرصاص وواحدة فارغة فقط، ويقال جرب حظك فقد تنجو من الموت.
بدأ الحاكم يلقي الأحكام علينا وتبدأ كالعادة - أو هكذا حصل أمامي - من أقل الأحكام، يذكر هذه العقوبات مشفوعة بمواد قانونية وبدلالة مواد أخرى لا أعرفها ولم أسمع بها ولم يصغ إليه أحد وهو يتلوها؛ لأننا كنا ندرك أنها مهزلة وكوميديا قاتمة السواد لا علاقة لها بأي قانون سوى شريعة الوحوش، وصدقا أني لم أتعرف على هذه المواد إلا بعد سنوات طويلة حين بدأ الفرز الأمني بحسبها في ظرف خاص. وهذا لم يكن حالي منفردا به، بل كان أغلب السجناء هكذا، المضحك في هذه القوانين أن المادة التي كانت تعتبر مخففة في الزمن الذي حوكمنا فيها هي عينها التي حكم بها آخرون بعقوبة الإعدام قبل سنتين فقط. القانون لم يكن سوى جرة قلم ومطاط جدا، والأمر على الأرجح سوف يظل هكذا في هذا البلد، إن لم يصبح للقانون سطوة على القائمين به.
عندما بدأ بتلاوة الحكم الأخف لثلاثة رفاق كانوا معنا، انتقل بعدها إلى الحكم بالمؤبد على شخص آخر، ولم يتبق إذن بعد المؤبد سوى الإعدام؛ فتسمرنا بذهول ننتظر حكم الموت، لكن المفاجأة كانت أن حصتي مع اثنين آخرين هي السجن المؤبد أيضا، تنفسنا الصعداء وتبادلنا التهاني جميعا؛ لأن المقصلة أخطأت أعناقنا.
صفحة غير معروفة