وفي مساء قرروا أن يرجعوه إلى مرعاه الذي أخذوه منه، وكعادتهم عندما يصير في نيتهم إطلاق سراح أحد ما، فإنهم يحاولون استرضاءه بإبداء مرونة في التعامل معه، ولم يشذوا عن ذلك معه فأعطوه علبة دخان. - «إنها لا تكفي.» (قال لهم). - «لا تكن طماعا، ستغادر بعد يوم واحد فقط.» (هكذا قال له ضابط التحقيق). - «أنا لا أتحدث عن نفسي، إنها لا تكفي أصحابي الذين معي في الزنزانة.» - «خذها واتركهم أنت لا علاقة لك بهم.» - «لا أريدها، إما أن تعطيهم مثل ما تعطيني أو لا أريد أي شيء منك.»
كلمة لطم بها الجلاد، لكنها حركت الإنسان في قلب هذا الجلاد، وانتفضت الفطرة فيه، وأزاحت القسوة عنه بشكل مطلق في تلك اللحظة.
نزل إلينا الضابط ووقف أمام الزنزانة مذهولا يحدثنا: «ماذا فعلتم بالرجل؟»
جاءنا الجلاد هذه المرة إنسانا قد هده التعب ونبتت في قلبه من جديد زهرة الإنسانية النائمة، كان يحمل إلينا بيديه المجردتين كثيرا من علب الدخان، وأكثر منها قهقهة صادقة واعتراف لاحب أبلج بالهزيمة. أصر ضابط التحقيق على أن يأتي بنفسه ليقدم لنا علب السجائر بيديه مثنيا على تعاملنا الإنساني مع الرجل ومبديا إعجابه بنا، ذليلا منكسرا أمام موعظة قروي ساذج لقنته درسا بليغا في الشهامة والمروءة. موعظة جعلته يعترف بأن أواصر الإنسانية أقوى من كل الأسلحة التي يملكها هو ومن معه من الجلادين.
14
في مساء شتوي بارد طلب منا الاستعداد لمقابلة مهمة مع مدير المعتقل (مديرية أمن نينوى) الذي كنا نحتجز فيه، وهو شقيق جنرال عسكري كبير معروف، اسمه «ه. ص. ف». تمت إزالة الروائح الكريهة من أجسادنا بالسماح لنا بالاستحمام بشكل جيد، وترتيب ما يمكن ترتيبه من هندامنا المضحك الذي عاد في شأن لا يمكن أن يصلحه أشطر دراز في المدينة. البعض منا كان يعول كثيرا على هذه المقابلة واستعد للانتفاض أمام مدير المعتقل بإنكار كل التهم المنسوبة إلينا، وشرح السبب الحقيقي وراء هذه الإفادات المزيفة بأنها منتزعة تحت التعذيب الجسدي والنفسي القاسي. كنت أشعر بعدم اكتراث شديد من هذا الحدث المرتقب من غيري، ولم أعول عليه تماما، ولم يشكل عندي أي أهمية بالمرة. كنت أتعامل مع الحدث بحالة من لا أبالية منقطعة النظير؛ لأني وبكل صدق وصراحة كنت أعيش حالة يأس تام من تغيير ما يجري، ويتملكني في الوقت عينه شعور مرير بالهزيمة وإحساس بأنه لم يتبق إلا النزر اليسير في مساحة هذه الدنيا التي ضاقت جدا وأصبحت بحجم حبة رمل.
كنت مؤمنا بأنهم يريدون قتلنا عن ترصد وسبق إصرار، ولا يخفى على أي واحد منهم حجم الظلم الذي تعرضنا له أو مقدار الهمجية والوحشية التي عوملنا بها؛ لأنهم كانوا مستمرين عليها بشكل نمطي وكلما سنحت لهم فرصة أو لاحت لهم قناة، يضعون فيها مركب حقدهم على الإنسانية. كيف لي أن آمل بعد ذلك من مجرم كبير، بل من كبيرهم أن يكون منصفا وعادلا ويصير محلا لشكوى مظلوم؟ منطق خلاف العقل كمن يستعين بالشيطان لدفع شره.
إنها سذاجة مفرطة وحماقة كبيرة وغباوة منقطعة النظير أن تهرب من الظلم إلى الظالم، هكذا قدرتها وحسبتها، وفي الوقت عينه كنت أختلق لأصحابي عذرا في داخلي، إنهم غرقى والغريق يبحث عن قشة، وهل نسيت أحلامي يوم كنت أتلقى التعذيب؟ إنها كانت سخيفة هي الأخرى ومضحكة بالقدر نفسه أو أكثر.
كان يراودني شعور من نوع آخر - ولو بدرجة أقل - وهو شعور الكبرياء والتعالي؛ لأني كنت أستنكف أن أطلب من هؤلاء المجرمين أي طلب. إحساسي بالفخر والعزة أخذته بالوراثة أو بالتربية. كنت أرى والدي لا يذل نفسه ولا يطلب من أي أحد شيئا حتى إنه امتنع عن التدخين؛ لأنه طلب يوما سيجارة من صديق له، فكيف لي أن أنزل نفسي موضع الذلة ومنزلة الإهانة أمام هؤلاء الذين لا يليق بي أن أتحدث إليهم، فكيف بالتفكير بالطلب منهم أو التوسل! موضعي الصحيح الاصطدام بهم وليس مهادنتهم، فكيف لي أن أترجاهم بشيء حتى لو كان ذلك الشيء حريتي وكان به خلاصي من سجونهم ومعتقلاتهم.
الحرية وكل الحقوق تنال بالنضال والصراع، ولا تأخذ منحة من أحد، أيا كان محله وموضعه ومنصبه في كل هذا الكون. الكسالى العجزة والأغبياء ينتظرون السماء تمطر رزقا لهم، أما الحاملون لمسيح الطهر حتى في يوم ضعف الولادة يهزون جذع النخل ليستمطروا قوتهم، وهل يهز النخل إلا الأقوياء؟
صفحة غير معروفة