من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد

ناهض الهندي ت. 1450 هجري
28

من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد

تصانيف

كنت أردد في داخلي وأحيانا بصوت عال وأنا أرى المشهد: «دم مسفوح اليوم من رقاب القمل، وغدا يسفح من رقابنا.»

كان هذا المشهد يزيد من درجة الاضطراب عندي ويفاقم الحزن والأسى في داخلي على هزيمتي التي لم أستطع تجرعها لتسعة شهور كاملة. لم تفلح كثرة المواساة التي كنت أسمعها من بعض رفاقي، ولا مقولة بات يكررها بعضهم: إن جسدي النحيف يزداد اضمحلالا ويتوغل فيه المرض. من إيقاف سيل مشاعر التشاؤم وحزني الداخلي الذي ضجت به روحي وطفح منها. بات البعض منهم لا يخفي شعوره حتى بالتصريح العلني ومواجهتي بأن خطر الموت قادم إلي أسرع حتى من أوان ورودي المقصلة.

كنت أتأمل القمل صريعا سابحا في الدماء، وأسأل نفسي: من ذا الذي يمنحني الحق في سلب حياة كائن آخر وتحت أي عذر فوضت بذلك؟ أم هي رغبة في اللهو لأني أمتلك قوة باطشة لا تملكها الضحية؟ هل هذا يعطي لكل ذي قوة الحق والمشروعية لإرداء منافسيه وأن يسحق كل من يتحرك بغريزته نحو ما يعتاش عليه ليبقى على قيد الحياة ولا يطمع بغير ذلك؟ هل يملك القمل من خيار آخر لقوته اليومي حتى أعده معتديا؟ معركتي مع القمل تماما هي المعركة نفسها التي يخوضها البشر فيما بينهم فقط، تتغير الأسماء والعناوين. كل يبحث عن سبب يبرر بها فعله، طرف يملك القوة ويزعجه وجود كائن آخر بجواره أضعف منه يطالب فقط بالعيش كما جاء لهذه الدنيا، فيقود القوي حملة دعائية ضده ويسميه كائنا معتديا ضارا، ويقول بعدها وفقا لدعايته وتنظيراته الفكرية الخاصة: إن هذا كائن مضر يجب سحقه وإنهاء حياته، وينبغي أن يباد هو ونسله ويشتت جمعه ليعيش العالم بسلام، وهل يبنى السلام بالقتل والدماء؟!

كنت أردد في حوار داخلي: إن قوتي التي أسحق بها أسراب القمل سوف تزول قريبا؛ لأن ما أحسبه وحشا ينتظر قطع رقبتي هو عين ما ينظره القمل لي الآن، وسوف يمارس ذاك الوحش معي فعلي ذاته الذي أفعله مع القمل. حوار داخلي كان يذهب عميقا وينتهي بي إلى سلوك غريب، ربما بلا معنى حقيقي، لكنه كان يعكس حيرتي وتيهاني آنذاك. كنت إثر ذلك أتجنب - وبحرص شديد - قتل القمل بالقدر الذي أخشاه وأمقته، مصيري الماثل أمام عيني ليل نهار جعلني أتعايش معه وأقبل حقه بالبقاء؛ لذا كنت بدلا من قتله سحقا صرت أنقله حيا إلى داخل كوب ماء مملوء ليموت غرقا. طريقة كانت أكثر سخفا لأنها أقسى تعذيبا له، إنما بها كنت في الحقيقة أحاول التشبث بالحياة وليس إنقاذا له، كما كنت أحاول أن أخدع نفسي وأبرر عملي هذا.

تصرفات غريبة تعكس الفوضى والتشتت الداخلي الذي كنت أعيشه؛ فمحاولة الخلاص من تأنيب الضمير من جريرة قتل القمل بفلسفة كانت تبدو أشبه بأحاديث جنون مبكر. فلسفة قد تكون أقرب إلى العبث والسفسطة وبسببها ما عدت قادرا حتى على اعتراض نملة صغيرة تسير إلى جوار حائط هي وسرب من رفيقاتها. أضحيت أنظر بأسى مبالغ فيه إلى خنفساء سوداء تعبر الزنزانة وتتقلب على ظهرها فجأة ، ولا تقوى على الاعتدال، فأهب لمساعدتها على النهوض ثانية بعناية وحنان. كنت أتشبث بالحياة بحياة غيري، وأكثر ما كان يضايقني هو تلك الرغبة الغريزية في قتل الهوام عندما تسري على جسدي، كان يراودني شعور تصحبه كآبة شديدة أحس معه أني جلاد متنكر، شعور لم أتخلص منه.

12

في أحد الأيام حشر عدد كبير من المعتقلين في زنزانتنا بعد أن تم نقل مجموعة كاملة من زنزانة مجاورة ولم نفهم سبب هذا الإفراغ المفاجئ وبصورة كاملة للزنزانة المجاورة. توقعنا كالعادة وصول وجبة جديدة من المعتقلين السياسيين لا يراد لهم أن يختلطوا مع من أكمل التحقيق من مثلنا لدواع أمنية؛ إذ قد تنقل إليهم خبرتهم في التعامل مع المحققين. لم يحدث أي شيء وطال ترقبنا لتفسير هذا التصرف المفاجئ، إلى أن سمعنا فحيح مفاتيح الزنزانات الثقيل يصلصل بحقد من بعيد وبات قريبا جدا ليفتح حرس المعتقل باب الزنزانة المجاورة التي ابتلعت ضحية جديدة، لم نكن بحاجة إلى عناء كبير لنكتشف جنسها. صوتها الأنثوي هو الهوية الواضحة والعلامة الفارقة.

هذه هي المرة الأولى واليتيمة التي عاصرت فيها شخصيا اعتقالا سياسيا لأنثى في المعتقل نفسه. ماجدات وحرائر، وحفظ شرفهن من الأعداء والغزاة ترنيمة روتينية تتردد صباح مساء في وسائل الإعلام الحكومي، ولا يفتر الحزب ومناضلوه على تذكيرنا بها. ها قد جاء اليوم كي نختبرها في معمل إنتاج الأمن الثوري. في المساء جاء الرفاق حماة الحرائر وصائنو أعراضهن من المتآمرين والخونة ومن الأعداء الغزاة، جاءوا بكل قيافتهم وهمتهم وذهبوا بها هناك إلى الطابق العلوي إلى حيث ذهبنا من قبل لتبدأ فصول حكايتها.

على الرغم من كل الذي حصل لنا، ومع كل مرارة تجربتنا إلا أننا كنا نأمل بأنها ستحظى بمعاملة أحسن من التي أذاقونا إياها. إنها أنثى وامرأة شابة ورجال الأمن في الأول والآخر شرقيون مثلنا وسيمنعهم الحياء وشيمتهم القبلية العربية من اجتراح أفعال مخزية وسوف يعاملونها بالتأكيد بما أنها امرأة على أنها كائن ضعيف الجسد وإن كانت معتقلة سياسية، ولو اضطروا لمعاقبتها فسوف يكون من جنس التعذيب العادي المتوقع إنزاله بكل معتقل سياسي.

لم نكن نطمع بأكثر من هذا لها، لم يكن هذا توقعا بقدر ما كانت أمنية ساذجة من نفوس لم تتعرف بعد جيدا إلى أي مدى يمكن أن تصل إليه البهيمية في المخلوق البشري عندما يواصل ركوب عربة الانحطاط. تمنينا لها ليلة لا تسبح فيها عارية في الفضاء معلقة بأحد السقوف كما فعلوا بنا. لم نكن نجرؤ حتى في أحلامنا الوردية لا في يقظة أو في منام أن نبعد الهراوات عنها؛ لأننا كنا على يقين أن الركل والصفع والكيبلات زاد يومي لكل معتقل، ولن يدخرها رجال الأمن لأي أحد مهما كان عمره أو جنسه. لم نتخيل أبدا أيضا أنا كنا نختزن حلما سخيفا آخر ستبعثر أشلاؤه حين تند صرخات سيدة شابة بموته. سيدة ما عرفنا لها اسما ولا عنوانا إلا كونها كائنا اختار الحياة، وقررت أن تفكر بحرية ممنوعة في بلد تزدحم فيه الممنوعات أكثر من ازدحام القمل على ياقة سجين.

صفحة غير معروفة