تمهيد
التجربة الشعرية
من السماء
على صخرة سيدي بشر وحي بير مسعود
رحلة الزمان
الجدول المسحور
بجماليون
الزمن المريض
يأس
إلى الفن
قصر ريجيا
خلائق اليوم
بطل العلمين
نجوى العيد
تحية المليك
الموتى المشردون!
الحنين
قبلة ميلادي
الإسكندرية الفنانة
الفن الضائع
دمعة وابتسامة
مجدا
بسمة الأرض
عابر سبيل
الوفاء
الصيف
يوم الجامعة
الخائن الجبار
فن الجحود
حواء تندم!
حوريات الماء
الأمواج
معركة الحب
قلب لا يشيب!
قبلة أعوام
أنانية الجمال
غرام وانتقام
رثاء أحمد محرم
رثاء زوجتي
وداع مصر
استقبال أمريكا
هكذا حدث ... رثاء نسيب عريضه
ذكرى المهرجان اللبناني الكبير
ثقتي بمآل الإنسانية: دستور لوحدة العالم
عيد النيروز
في أتلنتيك ستي
رثاء عبد المنعم رياض بك
قطرات الندى
بماذا سيموت؟
الاحتمال
فني وحياتي
قلب والد
القلب الباكي
ربيع الحر
تحية وفاء
الألوهة والكون
حسني الزعيم
غضبة الأحرار
الشاعر السامي
الطلع والزهر
جواب الصديق الشاعر نعمه الحاج
واد وواد
كابوس نائب
تقديس الفن
إرتريا الجديدة
الواحة والهجير
رجع الصدى
النكبة
نيويورك
اللاجئون
عيسى
شجرة عيد الميلاد
الصعود
تمهيد
التجربة الشعرية
من السماء
على صخرة سيدي بشر وحي بير مسعود
رحلة الزمان
الجدول المسحور
بجماليون
الزمن المريض
يأس
إلى الفن
قصر ريجيا
خلائق اليوم
بطل العلمين
نجوى العيد
تحية المليك
الموتى المشردون!
الحنين
قبلة ميلادي
الإسكندرية الفنانة
الفن الضائع
دمعة وابتسامة
مجدا
بسمة الأرض
عابر سبيل
الوفاء
الصيف
يوم الجامعة
الخائن الجبار
فن الجحود
حواء تندم!
حوريات الماء
الأمواج
معركة الحب
قلب لا يشيب!
قبلة أعوام
أنانية الجمال
غرام وانتقام
رثاء أحمد محرم
رثاء زوجتي
وداع مصر
استقبال أمريكا
هكذا حدث ... رثاء نسيب عريضه
ذكرى المهرجان اللبناني الكبير
ثقتي بمآل الإنسانية: دستور لوحدة العالم
عيد النيروز
في أتلنتيك ستي
رثاء عبد المنعم رياض بك
قطرات الندى
بماذا سيموت؟
الاحتمال
فني وحياتي
قلب والد
القلب الباكي
ربيع الحر
تحية وفاء
الألوهة والكون
حسني الزعيم
غضبة الأحرار
الشاعر السامي
الطلع والزهر
جواب الصديق الشاعر نعمه الحاج
واد وواد
كابوس نائب
تقديس الفن
إرتريا الجديدة
الواحة والهجير
رجع الصدى
النكبة
نيويورك
اللاجئون
عيسى
شجرة عيد الميلاد
الصعود
من السماء
من السماء
تأليف
أحمد زكي أبو شادي
تمهيد
تضم الصفحات التالية معظم شعري ما بين سنة 1942م، وسنة 1949م، وقد ضاع جانب من مخطوطه في خلال نقلتي من مصر إلى أمريكا سنة 1946م وفيما انتابتها من محن، كما ضاع بعض الصور الفنية وفي مقدمتها «رحلة الزمان» و«خلائق اليوم»، ولكن في هذه النماذج الميسورة ما يكفي تمثيلا لشعوري ولخواطري في أثناء هذه السنين، ولمبلغ تفاعلي النفساني مع الأوساط التي عشت فيها. ولعل بها ما يرضي مطالب الناقد الأدبي وقراء الشعر الحديث.
ويطيب لي في هذه المناسبة أن أهدي خالص الشكر إلى لجنة النشر التي تكفلت بإصدار هذا الديوان وأكرمت في شخص صاحبه ما عددته إكراما للشعر العصري ورواده، لا إكراما لشخصي وأدبي فحسب. كذلك يطيب لي أن أشكر لدار (الهدى) عنايتها الفائقة بطبعه وإخراجه في هذا المظهر الفني القشيب.
أحمد زكي أبو شادي
نيويورك
التجربة الشعرية
بقلم صاحب الديوان
للشعر مقومات تتنوع في تركيبها ولكن لا ينفرد أيها به. وأولى مقومات الشعر الصادق التجربة الشعرية؛ أي تأثر الشاعر بعامل معين أو بأكثر واستجابته إليه أو إليها استجابة انفعالية قد يكتنفها التفكير وقد لا يكتنفها، ولكن لا تتخلى العاطفة أبدا عنها، إذ إنهما حينما تبتعدان يتجرد الشعر من أبدع صفاته الأصيلة ويصبح نظما خلابا على أفضل تقدير، أو ينعت «بشعر الذكاء» تجاوزا. والنماذج لذلك كثيرة غالبة، ومهمة النقد الفني تثبيطها بل استئصالها. وحينما يصبح الشعر موضوعيا فإن الشاعر القدير في قصته أو في ملحمته يتمثل العواطف لشخصيات روايته ويخلعها عليها كما يصنع الممثل على المسرح، أو يعبر عن إحساسه ضمن الموضوع الذي يعالجه.
والتجربة الشعرية قد تكون عظيمة كما قد تكون تافهة في ظاهرها، ولكن الشاعر الكبير قادر بتأثره وتفاعله على إبداع الجليل من التافه؛ لأنه يراه بمرآة نفسه الكبيرة التي كيفتها عوامل شتى ممتازة، ويتمثل الإنسانية عامة لا شخصية فرد في شعره، وهكذا يأتي بالممتاز المعجب من أبسط التجاريب في ظاهرها المألوف. وقد تكون العاطفة متجلية في الشعر، كما قد تكون مستورة. ومن الطراز الأول عاطفة الود التي أنطقت المتنبي بمثل هذه الأبيات الخالدة التي تناسب كل زمان ومكان، وتعبر عن شعور الإنسان إطلاقا، وإن كانت مناسبتها الظاهرة عتب المتنبي على سيف الدولة قبيل النزوح عنه:
يا من يعز علينا أن نفارقهم
وجداننا كل شيء بعدكم عدم
ما كان أخلقنا منكم بتكرمة
لو أن أمركمو من أمرنا أمم
إن كان سركمو ما قال حاسدنا
فما لجرح إذا أرضاكمو ألم
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا
أن لا تفارقهم فالراحلون همو
فهنا الحرقة أو اللوعة لا تخص أبا الطيب وحده، وإنما هي شعور الإنسانية عامة إزاء الود الضائع والعقوق والكفران. ومن الطراز الثاني عاطفة الإعجاب التي أوحت مثل هذا الشعر إلى ابن هانئ الأندلسي في وصف الخيل وقد كان مفتونا بها:
وصواهل لا الهضب يوم مغارها
هضب، ولا البيد الحزون حزون
عرفت بساعة سبقها، لا أنها
علقت بها يوم الرهان عيون
وأجل علم البرق فيها أنها
مرت بجانحتيه وهي ظنون
فهذا الفتون ببراعة الخيل وجمالها هو بمثابة تصوف في لون من جمال (الطبيعة) وهو شعور إنساني خالد. وكلا النموذجين من النسق العالي، وكلاهما يمتزج فيه الفكر بالعاطفة امتزاجا سائغا، وهذا عندي أرقى الشعر، وإن عددت في مستواه نماذج من الشعر الصافي يمليها العقل الباطن وحده. ومن النماذج الرائعة المرددة للشعر الفكري العاطفي دالية المعري الرثائية التي يقول في مطلعها:
غير مجد في ملتي واعتقادي
نوح باك ولا ترنم شاد
وشبيه صوت النعي إذا قي
س بصوت البشير في كل ناد
أبكت تلكمو الحمامة أم غن
نت على فرع غصنها المياد؟
صاح! هذي قبورنا تملأ الرح
ب، فأين القبور من عهد عاد؟
خفف الوطء! ما أظن أديم ال
أرض إلا من هذه الأجساد!
وقبيح بنا، وإن قدم العه
د هوان الآباء والأجداد
فالجانب العاطفي في هذه التجربة الشعرية الرائعة هو ألم المعري من الحياة، كما كان يألم شوبنهاور ، واشتهاؤه زوالها وقد أن من الألم:
تعب كلها الحياة فما أع
جب إلا من راغب في ازدياد!
والجانب الفكري متغلغل في صميمها وإن برز مستقلا في مثل هذين البيتين:
والذي حارت البرية فيه
حيوان مستحدث من جماد
فاللبيب اللبيب من ليس يغتر
ر بكون مصيره للفساد
وهو في هذا الشعر العظيم المعبر الأمين عن مأساة الإنسانية وحيرتها الكبرى في جميع الأزمان.
ومن نماذج الشعر الصافي الذي تدعمه العاطفة مستقلة في مجمله في النهاية ولا تجد فيها الإنسانية إلهاما ولا عزاء أو سلوى. وبين الشواهد على ذلك نظم الكثيرين الذين روى لهم السيوطي في (نظم العقيان).
إن التجربة الشعرية هي الدعامة الأولى للشعر، فإذا افتقدت لم تكن للموسيقى النظمية ولا لمتانة الديباجة ولا للتخيل المصطنع أية فائدة للفن، بل كانت جميعها مفردات أو تراكيب للافتعال وللتحايل على الشعر، وما كان التطفل على الفن فنا. والشاعر الذي لا تشمل روحه الكونيات الخالدة ليس إلا شاعر نفسه أو بيئته أو زمنه أو موضوعه المحدود.
وكان بودي أن أضمن هذا التصدير الوجيز في التجربة الشعرية نماذج خالدة من الشعر العصري وعلى الأخص في العالم الجديد تؤيد وجهة نظري المتقدمة، لولا أنها عديدة، ولولا أني لا أحب أن يتوهم استشهادي بالبعض دليلا على عدم اعتباري لما عداه، في حين أني أعتز بالشعر العربي الأصيل الجميل قديمه وحديثه أينما كانت مصادره ومواطنه وكأني صاحبه. وما أقصد بهذا التصدير - استجابة إلى دعوة الناشرين - إلا خدمة الناشئين بين قرائي، وإجابة السائلين عن بعض آرائي الفنية، ثم الدفاع عن الشعر وعن حق الشعراء في تنويع إنتاجهم وفي التعبير عن تجاريبهم الشعرية حسب أذواقهم وحدها فهي - دون غيرها - التي تكيف نماذج الشعر وتغني آدابنا بروائعه المنوعة التي لن تحد ما تنوعت الإنسانية وما تجددت الحياة وما تعددت ضروب التفاعل معها.
بقيت كلمة لا غنى عنها لمجانبة عامل غريب أساء إلى التجربة الشعرية في أدبنا، ألا وهو الأسلوب الخبري التقريري الذي يقوم على البيت وتصنع الحكمة المنظومة، فإن هذا العامل التقليدي لم ينفع إلا الفحول من الشعراء المطبوعين الكلاسيكيين، وشتان بين قوة ابن دريد في مثل هذا الشعر الحكيم الداعي إلى التبصر والمبشر بالكفاح والاحتمال:
لو لابس الصخر الأصم بعض ما
يلقاه قلبي فض أصلاد الصفا
1
إذا ذوى الغصن الرطيب فاعلمن
أن قصاراه نفاد وتوى
2
لا تحسبن يا دهر أني صادع
لنكبة تعرقني عرق المدى
3
مارست من لو هوت الأفلاك من
جوانب الجو عليه ما شكا!
أو قول أبي الطيب في الطبيعة الإنسانية:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
حتى يراق على جوانبه الدم
والظلم من شيم النفوس فإن تجد
ذا عفة فلعله لا يظلم
ومن البلية عذل من لا يرعوي
عن غيه وخطاب من لا يفهم
أو قول أبي تمام في حرية الفكر والقول وفي الاضطرار إلى الهجرة:
سأصرف وجهي عن بلاد غدا بها
لساني معقولا وقلبي مقفلا
وإن صريح الحزم والرأي لامرئ
إذا بلغته الشمس أن يتحولا
وبين ألوف الأبيات النظمية السطحية التي تكومت أنقاضا جيلا بعد جيل إلى يومنا هذا، حتى أفسدت في أزمنة ذوق الأدباء وعرفانهم للجمال. وقد يطيب لي بحكم ذلك أن أحبذ الأسلوب الرمزي والأسلوب القصصي، وأن أتفاءل بتذوق أدباء العرب في أمريكا لهما، وأن أتمنى أن يعاون نهجهما على اجتثاث الإيحاء النظمي الفاسد وعلى تربية الملكة الشعرية حيثما يستطاع ذلك، فإن الشعر على أي حال طبع وموهبة لا بهرج وصناعة، بل عقيدة فنية يسعدني أن أقدم هذا الديوان المتواضع أحد قرابيني لها.
من السماء
قالت (الأرض): «أي عطر لديك
سكبته السماء في راحتيك؟
أي شعر لها فتنت به الآ
ن، ولم أعطه سخيا إليك؟
هل علمت الأرباب فيها أسارى
ما تغنوا إلا بعطفي عليك؟
ما جمال السماء إلا جمالي
أنا أودعته قديما لديك؟»
قلت: «يا أم لم أبدل هيامي
أنت أمي وموئلي وغرامي
ما عشقت السماء إلا هروبا
من حياة تعج بالآثام
أنت من أنت رحمة بالبرايا
وهمو من همو بهذا الخصام
الدماء التي أباحوا دمائي
والسلام الذي أراقوا سلامي»
قالت (الأرض): «ما الشموس العوالي
في نجاء وإن تكن لا تبالي
في سحيق الآباد يوما ستخبو
وتلاقي مآلها من مآلي
أنت يا شاعري تجازف بالحب
ب إذا دمت عبد هذا الخيال
لن تلاقي لدى السماء سلاما
بل نضالا يزري بهذا النضال»
وتناهيت في السماء بروحي
وتراجعت مثخنا بالجروح
وشهدت الصراع فيها رهيبا
والضحايا مع الزمان الذبيح
فتغنيت عائدا بالمآسي
وكأني أعود عود المسيح
ولثمت الأرض التي باركتني
وانطوينا على فؤادي الجريح
1942
على صخرة سيدي بشر وحي بير مسعود
(الخطاب موجه إلى البحر في هذا المصيف الشهير برمل الإسكندرية.)
هيمان مثلك يا صديق الشاعر
أنظر تلهف ناظري وخاطري!
أنا من علمت محبة وتفانيا
في كل معنى من نشيدك ساحر
أصغي إليه ولا أمل كأنما
أصغي إلى لحن الخلود العامر
عزفت به الأرباب من عليائها
قبل الوجود فكان روح الشاعر
نتقاسم الأحلام ملء خيالنا
ونبادل الإحساس بين مشاعر
وتظل تشجيني بموجك راويا
قصص الحياة لساكن ولعابر
ألتذ بالصوت الرخيم وإن يكن
ذاك الرتيب كرجع حلم غابر
لغة الجمال طلاقة بل ثورة
والفن يعبد في الجمال الثائر
هل كان قربي منك غير عبادة
أو كان صوتك غير صوت مقادر
أو لا، ففيم تأملي وتفهمي
نجواك وهي عميقة بسرائري؟
وعلام أصحب كل موج واثب
وأعد ذرات الندى المتناثر؟
وعلام أشغف بالصخور روانيا
وكأنها قامت عروش قياصر؟
وكأنها عبدتك مثلي حرة
فتألهت بمظاهر وضمائر
قد جئت سباق الربيع وطالما
أنشقت منك هوى الربيع الناضر
وضممتني بأشعة فرحانة
مثلي كأنك بالأشعة آسري
حتى تناسيت الربيع وزهره
وقطفت من معناك حلو أزاهري
ونسيت عندك للصلاة خشوعها
لما رأيتك في ابتسامة ساخر
وجعلت من صور الصلاة دعابتي
لك غير مكترث وغير محاذر
حتى تشاركنا الرمال وتنتشي
هذي الصخور فنرتقي بالخاطر
متصوفين كأننا لم نفترق
يوما ولسنا من غريب عناصر!
1942
رحلة الزمان
وحي صورة فنية
يا راحلا لم ينل من جهده تعب
مجذفا وله الأمواج أدهار
في ذلك القارب الرمزي عالمنا،
الأمس والغد والمشهود حضار
تسوسها جامعا من رمز وحدتها
للكون ما فصلت للكون أقدار
تحيا الأنوثة فيه بالرجاء لنا
وفي تأملها هدي وأنوار
تمثل (المقبل) المرجو ناظرة
إلى الأمام، فما تخفيه أستار
وهذه أختها في اللهو سادرة
تمثل (الحاضر) الحاويه قيثار
كأنما قد سلت عن غيره وبدت
نشوى فليس لها في الأمس تذكار
في حين أخت لها هيهات يشغلها
إلا التذكر معقود له الغار
قد أسندت رأسها إذ تستعيد منى
ضاعت كما ضاع أحلام وأوطار
قد مجدتها جميعا وهي فانية
كذلك (الأمس) مهما ساء يختار •••
يا راحلا عبؤه عبء يحيرنا
كم ملء رحلته هم وأخطار
نراه لكن نرى السطحي يشملنا
وكم تحجب في التيار أغوار
لم تضرب الموج بالمجذاف معتبطا
1
إلا وفي الموج للمجذاف آثار
يتلو روايتها الغادون في عصر
شتى وتخلد فوق الموج أسطار
كم من تجاريب قد دونتها حكما
أو ثأر أهل العلى لو يؤخذ الثار
وكم تجاريب من طيش ومن نزق
مثل الكواكب قبل الموج تنهار
تبدو على ذلك التيار قصتها
وإن يكن طيها للنفس أسرار
وأنت حي على الآباد، محتكم
على المقادير، وثاب وجبار
مجنح ثم تأبى أن تطير سدى
ودائب ما له في الدأب أعمار •••
من السماء رجعنا بعد رحلتنا
وبينها من عصور الخلق نظار
فقلت للزمن الموموق: «يا زمني
ألم تشبك كشيبي اليوم أسفار؟
أما سئمت من الأجرام عابثة
ومن شموس لها قصف وأسمار
ومن تجاريب في الإبداع طائشة
رهن الملايين لا تخبو بها النار؟»
فقال: «بل هي سلوى ملء بوتقتي»
وتلك للفن إلهام وأخبار
إنا كلينا قبسنا من محاسنها
ومن محاسنها خلق وأفكار
ومن تجاريبها دنيا أجددها
كما يجددها لحن وأشعار!»
1942
الجدول المسحور
على مقربة من ملروز في إيقوسيا يوجد جدول ماء متغلغل تحت الأعشاب والنباتات المشتجرة الزاحفة يدعى «بوجل بيرن» اشتهر إلى جانب جماله بأسطورة ظريفة أوحت كما أوحى إلى صاحب الديوان بهذه القصيدة: (ملروز) جدولك النئوم الحالم
ما زال من حبي عليه نسائم
الذكريات زهت به في عالمي
وهو الذي لا يزدهيه العالم
متحجب خلف النبات وتحته
لكن تنم على سناه معالم
فكأنما دعة الأنوثة روحه
تخفي فيفضحها الحنان الناعم
جالسته وكأنما في صحبتي
بين الجنان مراشف ومباسم
ومن النبات ستائر سحرية
ومن الأشعة والظلال مجاثم
يا طالما خاطبته بتأملي
فيجيبني ذاك الخرير الحالم
وكأنني في حلمه مستغرق
وكذاك يحلم صادح أو باغم
كل (الطبيعة) حولنا بسكينة
نسج الخشوع لها الجمال الدائم
وأنام أرتشف الخرير مدامتي
ومتى أنام ولي الخرير منادم؟
أصحو على سكري، وآبى هجره
وأخاله قوتي، وما أنا واهم
قد كنت أنفق في اصطحاب سنائه
من خير أيامي كأني غارم
فيعيدها عمرا جديدا ضافيا
لهواي فهو مزود ومقاسم
وكأن محراب الطبيعة كهفه
1
وكأنما أخفت سناه مناجم •••
لم أنس ليلة جلستي في قربه
والبدر يسكب نوره في حبه
والصيف في أنفاسه من عطره
وحي لبلبله
2
القرير بقربه
يشدو بصوت كالضياء صفاؤه
والماء مهتز كهزة عشبه
في فرحة مثلي وفي تهليلة
للفن تنبع حرة من قلبه
ونقيق عشاق الضفادع مالك
سمعي، كأن نشيدها من كسبه
حفلت جميعا بالحياة وبالهوى
مثلي ولم تعص الهوى في شربه
نتبادل الأنخاب بالذكر التي
نهبت، وما برح الزمان بنهبه
حتى رجعنا نستعيد أحبها
منه ويغفر أنسنا من ذنبه
بوليمة للروح قبل مشاعر
سكرى، وكل عاشق في صحبه
متباينين موحدين، تصوفت
ألبابنا في الكون فهي بلبه
من علم النبت الضئيل عبادتي؟
بل عالم الحشرات من صلى به؟
لم نصطنع لغة سوى إحساسنا
بالحب، أو خمرا سوى من سكبه
فسكت كالمشدوه وهي بجانبي
في عتبها، وتصوفي في عتبه
فلثمتها وكأن من لثمي لها
قربان من أنهى الصلاة لربه! •••
قالت فتاتي: «هل سمعت الماء
متمهلا يروي لنا الأنباء
عمن مضوا وتفيئوا أزهاره
أو بادلوه محبة ورجاء؟»
فأصخت للماء المثرثر هامسا
يستوقف الجنية الحسناء
متداولا ذكرا كأن لنا بها
عبرا تثير الشعر والشعراء
قال الطروب الماء: «يا حوريتي
كم ذا جنيت هنا صباح مساء
ماذا أصاب فتاك حين دعوته
ليقبل الثغر الجميل فناء؟»
3
قالت: «تشهيت الجمال بذاته»
لا أن يذال كما ترى ويساء
وحرصت أن يحيا لدي متوجا
في عالم لم يعبد الفحشاء
ما ناله سحري بغير محبتي
فهو الأسير وما أراد نجاء
كان التحدي بعض إغرائي له
فهوى يقبلني فصيد جزاء
ومضى تبيعي غائبا في عالم
بالسحر ينبض روعة ورواء
ومنحته تفاحة مسحورة
من ذاقها لا يستسيغ رياء
حتى إذا ما شاء زورة أهله
يوما رأى دنيا الرياء فباء
4
وأبى الأنام وكل ما حفلوا به
ورأى الضياء حيالهم ظلماء!» •••
قالت فتاتي وهي في سكر الهوى: «أترى إذا قبلتني نلقى النوى؟
هل أنت تخشاها؟
5
فمالك صامتا
متأملا متوجسا كمن ارعوى؟
أتظنني جنية حورية
فرأيتني خطرا ولا خطر الهوى؟»
فضممتها ولثمتها ورضيتها
دنياي بل أخراي عن دنيا الورى
وأجبتها: «هل من نعيم يشتهى
غير النعيم لمن أحبك وارتوى
ستجيء أعوام أعيش بحرقتي
فدعي الظنون بل ادفنيها في الثرى
ولتمنحيني الآن ما تهبينه
لمسافر لم يصطحب غير الجوى
إني أرى آتي السنين مهددا
حظي وألمح فيه أقسى ما احتوى
فهلم نسخر من زمان حاقد
من قبل أن يسعى بنا أو بيننا
كم من غرام طاهر أودى به
كعبير هذا الزهر ضاع مع الهوا»
فبكت، فقهقهت المياه لشجوها
وتضاحكت أعشابها بين الحصى
وسمعت من حورية محبوسة
في طيه أنات من فقد المنى
فعجبت من هذي المياه وسحرها
ورجعت ألثمها وأدخر الغنى
والآن من بعد الفراق وما جنى
أحنو على ذاك الزمان وما جنى!
1942
بجماليون
من خيالي جبلت حسنك تمثالا فطافت حياله الأنبياء
مشرقا من جمال ما علموا حين الذي علموا طواه الفناء
سجدوا مثل سجدتي لمحياك فمنه تألف الإيحاء
نظرة للألوهة استعبدتنا وعبيد الجمال هم من أضاءوا
وتخلوا عن السماء فإن الأرض لما سكنتها تستضاء
بل لدن أبدعت يد الفن فيها رسمك الذي اشتهته السماء
أتملاه في شخوصي وأحلامي ومن غير فؤادي براء
يا مثاليتي التي لم تدنس بتشابيه كلها أهواء
ما تسابيح مهجتي فيك إلا صلوات روحية غناء
لم تعرف ولن تعرف يوما لنفوس لم يستثرها الضياء
والضياء الذي تشبعت منه غير دنيا ضياؤها ظلماء
والجمال الذي تغنيت فيه غير ما تابع الورى كيف شاءوا
كلما جئت مفصحا عنه ردتني إلى الصمت نشوة خرساء
بايع الأنبياء قلبي بالحب وعبئي من دونه الأعباء
ففروضي فروضهم وعباداتي وحيدا هي الغنى والجزاء
وهي همي ولوعتي وشجوني وهي أنسي ولذتي والرجاء •••
وتجليت فتنة وأنا العابد لا تستشيره الضوضاء
وتخيلت إنني ذلك المغرم يصبي خياله الإغراء
فتباعدت، حينما أنت للفن خيالي المقدس الوضاء
لا التي يعشق الورى، وهي منهم، ويباهي بوصفها الشعراء!
1942
الزمن المريض
عزاء إلى شاعر صديق
قد كنت آمل أن أراك بصحة
غردا وفي دنيا من النعماء
لأجدد الحب القديم وإن يكن
حبي المؤصل في صميم بنائي
فإذا دموعك كاللهيب تصدني
ومن اللهيب لواعج الآباء
ريع الفؤاد وقد قرأتك باكيا
هذا الصباح فما ملكت بكائي
لم أرث في دمعي شجونك وحدها
بل كان للزمن المريض رثائي
عشنا نعالجه فخان وفاءنا
وجنى، وكم يجني على الشعراء
هذي ضريبته، وهذا عالم
العدل فيه مخاتل ومرائي
لم ألق غير الفن ملجأ رحمة
وعزاء من يصبو لصدق عزاء
فالجأ إليه مثابة علوية
وتلق فيه من العزاء وفائي
1942
يأس
إني يئست، ومثلي غير متهم،
من الأنام، ويأسي من أحاسنهم
إن أنصفوني فغبني عين نصفتهم
وفيم غبني وجهدي غير غابنهم؟
قد حرت ما بين تجريح لعاقلهم
كأن عاقلهم ند لماجنهم
وبين ميزانهم للحق في سفه
حتى تساقط حقي عند وازنهم!
1942
إلى الفن
(توديع للآنسة الفنانة فاطمة هنو قبيل التحاقها بمعهد الموسيقى بالقاهرة.)
إلى الفن نجواك يا (فاطمة)
إلى الفن بسمتك الحالمه
ستمضين أحوج من ترتجيك
عيون وأفئدة ساهمه
لكم نعمت منك بالعبقري
من اللطف والدعة الباسمه
ومن نكت بالمعاني الدقاق
حوافل، والملح الدائمه
أثيرية الطبع لا تستقر
خواطرك الحرة الهائمه
كأنك جوالة في الوجود
تصيدين ألحانه العائمه
وتعطينها طرفا غاليات
من الظرف والصور الناغمه
سنحرم في البعد هذا الرحيق
فما الزاد للأنفس الصائمه؟
ولست البخيلة للأوفياء
فهل تخذلين المنى الغارمه؟
سقينا التفاؤل من وجنيتك
بضحتك الحلوة الناعمه
ولما نزل بعد من تابعيك
نرجيك في الوحشة القاتمه
نرجيك مستذكرين الرشاقة
والأنس والحيلة الواهمه
ونلقاك بين الأغاني اللطاف
تدين عواطفنا الناهمه
ومل رؤى الشعر حول (الطبي
عة) وهي بيقظتها نائمه
لكم كنت ترعينها في الحقول
وتستلهمين الرؤى الجاثمه
فعودي لها بجديد الغناء
تعودي بآياتها الكارمه
ولا تحسبي الفن رهن السماء
ففي الأرض دولته قائمه
نعم، أمنا الأرض من أبدعته
وطار بأجنحة نادمه
فلا تجحدي فنها أين كنت
فأنت الوفية يا (فاطمه)!
1942
قصر ريجيا
(تحية إلى الصديق الشاعر الموهوب مفيد الشوباشي حين أصدر كتابه عن أيام كلوباطرا الأخيرة.)
يا (قصر ريجيا) أين أنت؟ وهل سلمت؟ وهل أمنت؟
فتشت عنك فلم أجدك، وجئت أستوحي فبنت
هذا (مفيد) شعره المنثور ينثر ما كنزت
ويعيد ما استطيبته وإلى مفاخره حننت
وكأنه من ساكنيك وقد تحرك إذ سكنت
شهد الولائم والمجالس والمراقص مذ أذنت
وقياصر الرومان والمجد الذي كان وكنت
وعراك (بطليموس) والثأر القديم وما غنمت
وهوى (كلوبطرا) وما فقد الهوى لما هويت
واليوم يوفي دينه أدبا غنمنا بل غنمت
قصصا من الفن الأصيل به فتنا إذ فتنت
يتلى وكل حاضر عصر الفخامة فيك أنت
لا قارئ وصفا له يطوي كأخبار وموتى
فلأنت حي بيننا جم الشموخ كما عهدت
والشعب دفاق حيالك هاتفا حتى جننت
ويقهقه المرح الطليق وبعده الأحداث شتى
لو أنني حاولت في شعري تتبعها غبنت
وأديبنا الخلاف يرسمها فنلمسها وتؤتي
وكأنها ملك له، وكأن ما أوحى تأتى
جمع الحقيقة والخيال فما اكتفينا واكتفيت!
1942
خلائق اليوم
(وحي صورة فنية للرسام الإنكليزي رسل فلنت عضو الأكاديمية في لندن.)
مظاهر فن أم تهاويل ساحر؟
لقد ملك الفنان لبي وخاطري
ألم يودع الأصباغ فتنة عصره
كما أنطق الأصباغ روح المعاصر؟
وما اختار غير البحر معرض فنه
فقد نبتت في البحر شتى المشاعر
أبونا
1
الذي ربى العصور فأنجبت
له حيوات من كريم العناصر
وقد نشر الإلهام إثر مسيرها
كأن من الإلهام زاد المسافر
رجعنا إليه
1
اليوم ظمأى لوحيه
وإن كان مذخورا بصورة ساحر
وما الريشة الزهراء إلا عواطفا
وإبداع خلاق ومزمار شاعر
فيرفض منها النور والظل عالما
جديدا كأشعار الربيع المباكر
نصحابه حسا وفيا مجسما
وإن كان لم يبرح خيالا لناظر
فيا لوحة فيها الملاحة نفحة
تعالى بها الفنان عن طيش عابر
عرفناك معنى عبقريا نحوطه
بأفئدة ولهى ونجوى السرائر
تراءت به (حواء) في مثل لها
منوعة كالخمر عند المعاقر
ولكنها كالخمر أصلا ونشوة
وإن نوعت في الوصف أو في المظاهر
فنسكر من لهو لها وتجرد
ومن ضجعة هزت عروش قياصر
وما الزورق الثاوي قريرا بقربها
سوى (زورق الدهر) الغيور المغامر
فلولا رضى (حواء) ما ساح ناجيا
ولا كان أستاذ العصور الغوابر
ولا خلد العمران رغم انتشائه
بسفك الدم الغالي ونشر المقابر
شربت مع (الدهر) الخيالات وحدنا
وسحنا إلى مهد العلى والعباقر
وعدنا فلم نظفر بعلم مجدد
ولكننا عدنا بإيمان ثائر
وكانت لنا (حواء) في كل منزل
نزلناه معنى فوق معنى المقادر
كأن ضياء الكون شعلة روحها
كأن هواها غامر كل غامر
وكل الذي يرجى سواها تعلة
من الوهم نجزيها ببسمة ساخر!
معان تراءت في خيالي كومضة
ولكنها ذخر لحي وقاهر!
1942
بطل العلمين
(قيلت في أول يولية سنة 1942 تحية للجنرال أوكنلك.)
إلى البطل الثاوي لدى (العلمين)
أزف من الإعجاب أهون ديني
إلى المنقذ الآلاف وهو مجازف
كأن مآل الحرب رهن يدين
تخطى صفوف الموت بالموت هازئا
وأرجع مفقود الرجاء لعيني
وأنذره العادي بشر هزيمة
فعانى سراب الطيش في (العلمين)! •••
لقد سخرت منه التلال ورددت
لها ضحكات السخر غضبى المدافع
وقد أقبل الفرسان كل لثأره
وكل بدباباته غير قانع
عزيز عليهم أن يردوا فراسخا
وقد صبغوها في قديم المواقع
وقد أورثوها بالدماء شعورهم
كما أخصبوها بالهوى والمدامع •••
إلى البطل الحر الذي لم يمت له
يقين لدن ريع الرجال وماتوا
إلى العلم الصنديد يحرجه الردى
فيسمو ولا يسمو إليه ممات
إلى من يرد الغرم غنما موطدا
ومن قلبه قبل الحماة حماة
تحية من يهوى البطولة فذة
ومنها شعاع للورى وحياة
1942
نجوى العيد
(قيلت باسم المؤتمر الطبي العربي الخامس برئاسة سعادة الدكتور علي إبراهيم باشا في تحية حضرة صاحب المقام الرفيع مصطفى النحاس باشا إثر حفلة الغداء التي أقامها رفعته تكريما لأعضاء المؤتمر بكازينو أتنيوس بالإسكندرية يوم الإثنين 21 ديسمبر سنة 1942.)
لمن تزف التهاني أيها العلم؟
إليك أم للألى في فرحة نعموا؟
نعم إليك، فما يرضيك يسعدنا
وهكذا تزدهي أعلامها الأمم
وليس أعلامها غير الألى بذلوا
كما بذلت ومن عانوا ومن خدموا
الواهبين من الأعلاق أنفسها
عند الشدائد لا يلوي بهم ندم
العازفين عن الأطماع مغرية
وعن نداء الدنايا سمعهم صمم
إن الزعامة إقدام وتضحية
حين التخاذل في يسر هو العدم
وليس (كالمصطفى) يسمو تواضعه
إذا هوى في غرور الغاشم الصنم
اليوم يجمعنا حب توزعه
وكلنا طامع: تعطي وتقتسم
لما مددت يد الترحيب تكرمنا
لم ندر كم من معان يسبغ الكرم
أهدى (علي) إلى علياك طاقته
1
وليس بعد الذي يهديه مغتنم
وما أقل الذي يهديه من كلم
وما أجل الذي توحي به الكلم
يغضي ويطرق كالأرباب معتكفا
وذهنه عالم هيهات يقتحم
وما (علي) سوى ذخر لأمته
من علمه العلم أو من حكمه الحكم
جاء الإمام لأهل الطب ينهضهم
وجاء من قسوة الأيام ينتقم
وحوله جمعنا يوفيك في شغف
أغلى الثناء على ما صنته لهمو
وما يزيد ثناء شأو رفعتكم
لكن به تتسامى مهجة وفم! •••
هذي (العروبة) في ناديك سامقة
وإن يرجي حجاك (العرب) و(العجم)
وهل (فلسطين) إلا (مصر) أو عرفت
ربوع (لبنان) إلا (مصر) عندكمو؟
أو (العراق) بجنات تغازلها
جنات (سورية) الفيحاء؟ فهي همو
جميعها فلذات من أبوتكم
وأهلها طالما رجوك إذ حرموا
جاءوا على سفر مضن فما تعبوا
لما طلعت تحييهم وتبتسم
وإن يكن زادهم علما وتجربة
وهمة لم تجز إيمانها الهمم
ونصطفيك بإخلاص نعز له
كما تعز به الأخلاق والشيم
كم بين مؤتمر ماض ومؤتمر
باد سقينا جميل الود بينهمو
ونافسونا فبزونا بما بحثوا
وزودونا فأغنينا بما علموا ••• (إسكندرية) رفت في مباهجها
مثل العروس إذا خطابها ازدحموا
بنت الحضارات لم تبرح معالمها
قلائد الفن تستوحى فتنتظم
والبحر يصغي كما تصغي مشاعرها
والموج مصطفق حينا ومحتدم
ألم يشارك هوانا أو عواطفنا؟
أو عله مثلنا للنور يغتنم
هذا مجال خيال الشعر رائده
وأنت رائد آمال الألى حلموا
والحرب تستعبد الإنسان جامحة
حتى لينسى الأسى والويل والألم
إنا احتشدنا لعلم نستعز به
حين الممالك أشلاء هوت ودم
وحينما أرسل الطاغوت صيحته
تفشي الدمار توالت عندك النعم
وحين كل جحيم صارخ لجب
يشوي الشعوب تعافى (النيل) و(الهرم)
هذي أنانية الدنيا تضرجها
لولا الأنانية الدنيا لما اختصموا
وأنت تضرب للإيثار أمثلة
وليس في منتهى الإيثار ما يصم
كأن سيرتك الزهراء معجزة
في عالم ملؤه الأوزار والرمم
لعل في يومنا فألا لخير غد
حين السلام وحيث العدل والشمم
حيت مدينتنا الغناء طلعتكم
فإن أضواءها من حولكم نغم
واسترجعت من عصور زهو جامعة
كانت تعلم للأجيال من حكموا
فإن شكرنا على الترحيب يغمرنا
فلا اللسان بمعوان ولا القلم! •••
يا عهد (فاروق) هذا عهد أمتنا:
عهد الولاء الذي ترقى له الذمم
إنا أمنا بظل من رعايته
ففي رعايته عدل لمن ظلموا
والعدل ليس بعدل في جلالته
إن لم يعمم وهذا عدله عمم
يا وارثا عرش (بطليموس) مقتدرا
ترف في ذكرك الآمال والعلم
تيمنت باسمك المحبوب نهضتنا
كما انتشت حوله الآثار تلتئم
فكل فضل جديد أنت معلنه
له الأصالة في التاريخ والقدم
عمر مديد من الإبداع رنقه
أجدادك الغر من شادوا ومن فهموا
وزدته أنت تدعيما وتزكية
فمن مبادئك الدولات تدعم
إن الملوك ملوك من شمائلهم
قبل العروش وإن جلت وإن عظموا!
1942
تحية المليك
(لمناسبة إهداء الدكتوراه الفخرية إلى الملك فاروق الأول بجامعة الإسكندرية إثر افتتاح كلية الطب بهذه الجامعة.)
مولاي! رحبت الثقافة وانتشت
بالمهرجان مدينة (الإسكندر)
خلعت ملاحتها على أفراحنا
وخلعت أنت وضاءة الأدب الثري
وتنافست صور الطبيعة والورى
بمشاهد لم تفتقر لمصور
ما كل يوم للثقافة موئل
والعصر عصر تناحر وتجبر
هتفت لمقدمك القرون ورددت
آمالها لمناظر ومذكر
وتألق اليوم السعيد بشمسه
فكأنها سارت بموكب (قيصر)
إن كان حجبها الغمام هنيهة
فكذلك الحسناء للمتنظر
أو كان داعبها الغمام بوكفه
فلقد تأدب عن هوى المستهتر
وكأنما النسمات في هذي الربى
تسري بإعجاب الربيع المبكر
وتردد الأنفاس من أنفاسنا
بحفاوة لم تجتمع في منظر
بالفاتح الملك الأبي وحسبه
بين الملوك حفاوة لا تمتري
وشجاعة حين الكوارث روعت
فتراجعت في صدمة وتعثر
وشمائل في البر بين رعية
عشقته واستوحته للآتي السري
أين التفت رأيت جم متاحف
وروائع للمجد لم تتغير
عاشت بإيمان العظائم واعتلت
كمنارة الأمس الرفيع النير
1
إن كان عفاها الزمان فإنها
خلدت بأعجب سيرة أو مظهر
والبحر حول سياجها متهافت
والموج بين مجاوب ومثرثر
لغة الطفولة ما حكاه وما حكت
والكل بين معمر ومعمر
يصغي إليها الشاعرون كأنهم
أخذوا، وتستهوي الذي لم يشعر
لا الحرب هدتها ولا أيدي البلى
بل عاش يصقلها الزمان المجتري
قد عاد يخدمها بذلة صاغر
فكأنها ثأرت وإن لم تثأر
وكأن حرمتها ديانة عالم
فتقدست عمن يبيع ويشتري
وأضفت أنت إلى جلالتها غنى
بجلالك الحر النبيل الخير
وبفتح (جامعة) بيمنك عرفت
فزهت على فتح الوغى والعسكر
ولعل (دينوكرات)
2
بين جموعنا
متخفيا في غبطة وتأثر
يصغي ويهتف مثلنا لمدينة
عاشت تجاوب حلمه في الأعصر
تجري الحياة بها فنونا جمة
وترف أحلاما وعزة جوهر
ولعل مدرسة (البطالسة) الألى
بهروا الزمان تمثلت للمبصر
وكأنما لما تقمص روحنا
أعلامها سرنا بموكب (سوتر)!
3 •••
نخب العلوم العاليات تسابقت
في خطب بشر العاهل المستبشر
رفعت إليه تحية إعجابها
بهدية جازت ظنون مقدر
والطب لم يسعد بيوم حافل
أسنى وأجمل أو عبير مسكر
تلك الوثيقة عهدنا ووفاؤنا
في خدمة الفكر العظيم المثمر
أبهى وأكرم من خرائط دولة
تجتاح في حرب وغزو مقفر
ولأنت أشرف من يجل رموزها
ويزيد من إيحائها لمعبر
تفنى الحروب بما جنته ودونها
تبقى الحياة لباحث ومفكر •••
مولاي! غنى الشعر في أفيائكم
وتراقصت رباته للمزهر
ولمحت كوكبة بها أعلامه
يتزاحمون لوحيك المستأثر
هرعوا، وكل سكندري خالد
من ذلك الأمس النضير المزهر
تبعوا (تيوكريتيس)
4
وهو موقع
لحن الجمال لشاعر وشويعر
فسبقتهم كيما أفوز بسمعكم
قبل النجوم، ولست بالمستغفر
وسعت شمائلكم محبة شعبكم
من حاضر حي وناء مضمر
فسلم مليك (النيل) رمز فخاره
لا رمز عصر ماثل، بل أعصر!
1943
الموتى المشردون!
(وجهت إلى جلالة الملك فاروق الأول.)
مولاي! حب الشعب أعظم ثروة
لك من كنوز التاج والسلطان
كن أنت رائده ووزع أرضه
لبنيه (كالفاروق)
1
في الإحسان
ما شأن آلاف الفدادين
2
التي
هي كالمقابر للسواد العاني؟!
ذهبوا بأرجاء البلاد تشردا
وتكفنوا بمذلة وهوان
وجميعهم موتى، وتلك لحودهم
ملء الضياع الفخمة العمران
تركوا المقابر صاغرين فعيشهم
ومماتهم بهوانهم سيان
وتجاوبوا بأنينهم وسقامهم
وجراحهم في عالم البهتان
أنت العظيم، فلا تدع إخلاصهم
لك يستباح بلا هدى وأماني
بل لا تدعهم في الورى أمثولة
لتدهور الإنسان بالإنسان!
1943
الحنين
كم يستبد الحنين!
أواه لو تعلمين
وكم يئن فؤادي
وما شكوت الأنين
كأن باقي عذابي
فروض نسك ودين
كأن طول احتمالي
غنم لقلبي الغبين
ساءلت عني ولكن
شكي يرد اليقين
وكلما زدت قربا
بعدت أو تبعدين
ألقاك نشوان لكن
حزني بقلبي دفين
على جمال مضاع
ما كان للعابثين
أولى به وحي فن
ووحي حب أمين
لكم هتفت بشعري
فبات شعري الثمين
وشع خمرا حلالا
من فيك للظامئين
أصغي إليك بحلمي
وأنت حلمي المبين
في حيرة لم تكيف
على امتحان السنين
أصار فني عزيزا
في حين حبي مهين؟
أتحفلين بشعري
ولست بي تحفلين؟! •••
وليلة من نعيم
أطعت فيها الحنين
وما ارتضيت شكوكي
ونهي عقل رصين
وما طبعت عليه
من الحياء الكمين
كأنما البدر أوحى
إلي ما تشتهين
فسرت أنفض همي
والنور برء الحزين
في موكب من خيالي
يخص بالشاعرين
كأنما فيه سارت
عواطف الخالقين
كأن (فينوس) غنت
ملاحم العاشقين
وذا (كيوبد) ير
مي السهام في اللاعبين
فيضحكون سكارى
وكل قلب طعين
إن يبدع النور وهما
فلست في الواهمين
تلك الطيور لداتي
وليس فيها كنين
إن يخذل الناس فني
فليس فيها ظنين
قد عودتني احتفاء
كإخوتي في الفنون
كم شجعتني بعطف
فكان همي يهون
كم صاحبتني لصفو
والصفو سر مصون
وجئت جنة أنسي
كأن أنسي رهين
وما أردت فكاكا
لو أنما تأذنين
لكن جعلت ابتهالي
تصوف العابدين
كأن روحي قصيد
يذوب للملهمين
كأن قلبي المعنى
قد رد للفاتحين
ساد التجاوب فينا
فلم يعد يستكين
وقد تناولت كأسي
من الغرام الضنين
كأن (باخوس) أوحى
بكل ما تبذلين
من عالم سرمدي
للحب أو للفنون
نروي ونحكي وننسى
ونحن في الحالمين
وأنت أسنى وأبهى
من كل ما تبدعين
حتى أذنت بلثم
لنور ذاك الجبين
فما لثمتك حتى
سموت في الخالدين
وما تركتك إلا
رجعت مثل السجين
مستسلما في حنيني
إلى عذاب الحنين
1943
قبلة ميلادي
يا نشوة الحب القديم ولهفة الحب الجديد
جمعتكما في قبلة سكرى غرامي وعهودي
أودعتها ما صانت الأحلام من عطر الخلود
وسكبتها راح الهوى ودما من الشوق الشهيد
ثم استعدت خيالها لحنا تألق في نشيدي
ونظمتها شعري الذي يحيا بأنفاس الورود
وخلقت أي هدية منها لميلادي السعيد
وكأنما هي نغمة زفت إلى سمع الوجود
تستمتع الدنيا بها مثلي وتخلد في قصيدي
والكون أحفل بالهوى للشاعر الحر الفريد
من عالم في صخبه يعنو لشيطان مريد
ما سير الأجرام غير الحب في جذب رشيد
أو أبدع الإعجاز غير جماله الموحي البعيد
فترسلي يا فتنتي بحنانك العذب الوليد
ودعيه يزهر ناميا، لا ترهقيه بالقيود
ودعيه يبلغ مثل تحناني وإيماني المجيد
فيعيش توأم مهجتي في عالم الحب الرغيد
لا يعرفان الشيب أو عمرا سوى الخلد المديد
وأعود أستوحي وأحيا بين تقبيل جديد
لا شاردا متعثرا آوي إلى قلبي الشريد
مستمتعا من حلو ساعاتي بعيد بعد عيد
ومخلصا لك آية الفنان في الفن النضيد
1943
الإسكندرية الفنانة
(أنشدت في حفلة رابطة اللوتس بمدينة الإسكندرية التي أقيمت لتكريم أعضاء هيئة التدريس بجامعة فاروق الأول يوم 25 مارس سنة 1943.)
الفن أنت فجئت أستوحيك
وعبدت ألوان الملاحة فيك
ونعمت بالنجوى فقربك جنة
خصت بروح الفن دون شريك
تتهافت الأجيال حول جمالها
كتهافت الأحلام حول مليك
وتحدث الأطياف في جنباتها
بروائع الآيات من بانيك
عاشوا وعشت مجاوبا لندائهم
بالحب يحييني كما يحييك
رقصت محاسنك الوضاء أشعة
وعواطفا لمنعم وضريك
1
عشقوك واعتزوا بحبك، واهتدوا
بسناك ، واعتصموا بمجد أبيك
وعبدت فاتنة الجميع كأنما
خطرت (كلوبطرا) لمستوحيك
خطرت وموج البحر رفاف لها
وتوشحت بضيائك المسبوك
وجلت على البحر الطروب مفاتنا
فإذا بحورياته تحكيك
عكست ملاحتها صباحة (زينب)
وحكت دعابتها رشاقة (بيكي)
والجو موار
2
بأنغام الهوى
وبكل فتح للغرام وشيك
وملاحم الأرباب تعزف فوقها
وتحول أشباحا لمثاليك
فوضى من الفن الجميل تناثرت
وتجمعت في دولة وأريك
3
وتدللت بالعبقري من الغنى
لغواية (المجنون) و(المفلوك)
صور قداستها الحياة بذاتها
نفحت أساطير الغنى المتروك
وأبت لنا إلا الخيال رفيقنا
ومن الخيال حقائق (الصعلوك)
4
من ذا يحاكينا ويقدر ما حكت
شفتاك من سحر لمستمعيك
ويرى ويعرف ما أصالة حبنا
ولم ارتفعت بسوقة وملوك؟ •••
وافى (الربيع) فتاه كل مغرد
وحلا الشروق، وطاب صوت الديك
وازداد مجدك عزة وجلالة
وطلاوة، فلعله يكفيك
وتسابق العلماء حولك مثلما
يتفنن الشعراء في ناديك
حفلوا بجامعة رفعت منارها
بين الدياجر والدم المسفوك
إن كرمونا فهو تكريم لهم
وهمو أحق بمدحة ترضيك
هذي خمائلهم وكل بلبل
حلو البيان سقاه من يسقيك
شهدوا (لأفروديت) أعراس الهوى
5
واسترجعوا ماضيه من ماضيك
وعفا (السربيوم)
6
الذي غنوا به
وبقيت أنت لنا ومن غنوك
وتدفقوا كالنبع سال جداولا
تروي كما يروي الهوى من فيك
وتفننوا بمنى (الطبيعة) فانتشوا
لما انتشت وحنت على أهليك
فلهم ثناء (الفن) قبل ثنائنا
و(الفن) كان ولم يزل واقيك
ولهم تحيات (الجمال)، فإنها
قد نزهت عن عاطل وركيك
لغة الألوهة شأو من هتفوا بها
7
لا مثل أشعاري لفنانيك!
1943
الفن الضائع
(مهداة إلى فتاة المندرة برمل الإسكندرية.)
لمن تمنحين الحب دوني عن عمد؟
وماذا يرجى الحب من شاعر بعدي؟
وحسنك أولى أن يصان جلاله
على الفن، حين الفن كالحسن للخلد
وما عالم الناس الذين تطاولوا
سوى عالم بين النفاية والكيد
ترفعت عن أن تسكنيه فحاذري
وخلي الهوى والحسن دينا لمستهدي
ولا تتركي الأيام تنهب خاطري
وتعصف - ما شاءت - بحبي أو وجدي
فإني تراث للملاحة والهوى
فإن ضاع لم يسعدك غبني أو فقدي
لئن كان من حق الجمال عبادتي
فمن حق مثلي أن يكلل بالمجد
وأن يغمر الحب الكريم فؤاده
جزاء، وأن يعفى من الشك والصد •••
مضى العام وانجاب (الربيع) عن المنى
ولو أن آلامي تباعدن عن عدي
ولو أن أحلامي هي الهم والجوى
على عالم بالثكل واليتم ممتد
تسربل بالظلمات وهي صواعق
وماشى الخراب الهول في الزمن الرغد
فصارت به الجنات نار جهنم
ويا ليتها! فالحرب تعدي وتستعدي
ذكرتك محزونا جريحا معذبا
كأني ألاقي الطعن في معرك وحدي
وقد كفكف الحاني (الربيع) مدامعي
وإن زادت النسمات - ما شئن - من وقدي
فأحسست بالسلوى تسلسل في دمي
تسلسل ماء النبع في الظامئ الورد
وقد ناله لفح الهجير بقسوة
فعاد يفض العطر في نفح معتد
فهل لك أن تصغي إلي فربما
أذبت فؤادي في النشيد بلا عود
كما ذاب عطر الورد في بسماته
وداعا لمن يهوى ومات بلا حمد؟! •••
ويا جارتي ما أبعد القرب بيننا
وذلك خوفي صير القرب كالبعد!
أناجيك في دقات قلبي والها
كأن فؤادي طائر رف في القيد
يحن إلى من قاته وأفاءه
ولو أنه في أسره ضائع الجهد
وأخشاك رغم الحب، لا عن ضلالة
ولكن كخوف القانت الواله العبد
وكم تمتمت نفسي بشعر محبب
أغرده في خدرك الساحر الوعد
فلما تلاقينا نسيت ضراعتي
ولم تبق لي إلا حشاشة منهد
وقد حالت الأنفاس شعري وحدها
وكم تحمل الأنفاس من قبل عندي
إذا لم تترجم في لغى الحب فالهوى
سيغفر ما أودى بشاعرك الفرد! •••
بروحي من أحلام عمري ساعة
جلست وموج البحر مثلي في زهدي
على الشاطئ المسحور أنت صخوره
وغنت به الأمواه للحجر الصلد
أراقب عن بعد جمالك ناشرا
على الماء ألوان الرشاقة والصيد
فيغنم عشاق دعابتك التي
تخاطفها مثل الجواهر مستجدي
وأقنع بالحلم البعيد ووحدتي
كأن حيائي قام دونك كالسد
ولكن خيالي لم يذلله حائل
فنال من القد المنعم والخد
وسابق موج البحر في وثباته
وبز شعاع النور في اللهو والجد
فكنت على بعدي المنعم ظافرا
بما لم ينل منك المقرب والمسدي
أتوا بالهدايا الحاليات رواقصا
وأخفيت قرباني من الطاهر الود
ولم تلمحيني في تلاهيك حينما
تحدثت الأمواج للكثب الجرد
وقد نثرت فوق الرمال تحية
من اللؤلؤ الغالي الذي جل عن عقد
تلقفها شعري وكاد يصوغها
لحسنك معنى لا يقاس بما تبدي
ولكن دنا العاتي الغروب فلم أفق
من الحلم إلا بعد أن فاتني رشدي
وقد ردد الموج الشجي تأوهي
وجاوبه في خطوه الحارس الجندي
1 •••
يعيش على الوهم المجنح شاعر
وكم باعه للوجد حينا وللسهد
ويرضى بأدناه عزاء ونعمة
على حين لا يرضى بدنيا من السعد
له كبرياء المستهين بما يرى
ووثب خيال المستعز بما يسدي
لئن صاحب الحرمان يدميه نصله
لقد آثر التعذيب حرا على الضمد
لئن أعرضت عنه الغواني لقد شدت
بتقديسه الربات في عالم فرد
تنزه عمن حاربوا الفن والهوى
وأولهم من لو درت قدست عهدي
ولم تتكلف كل ما هو متلفي
ولم تسقني الصاب المموه بالشهد
ولم تتحدث عن نشيدي وروعتي
بحب وإعجاب كأنهما ضدي!
ولم تدخر أنسا لمن عاش عابدا
مفاتنها ثم انتهى شبه مرتد •••
لمن فتن الحسن الذي جل عن حد؟
لمن شغف القلب الذي صين عن ند؟
إذا لم يكن هذا الجمال لشاعر
فما لي على فوضى التهافت من رد
حرام ضياع الورد في غير أهله
وظلم ممات النور والعطر في اللحد!
ولست ألوم الواردين تهافتوا
ولكن ألوم الحسن يعبث بالورد
وما أفسد الإحسان إلا ابتذاله
ولا قدر الإحسان إلا على قيد
سيأتي زمان تندمين على هوى
أضعت، ويا للحب ضاع من الأيدي! •••
ولكنها أصغت إلي بروحها
على النأي، والإيحاء للروح قد يعدي
كأن ولوعي زاجر ليس ينتهي
يحاورها باللطف حينا وبالنقد
ويلقي حواليها الشباك رقيقة
فما كان عن صيد الفراشة من بد
فلما التقينا بعد هجر وترحة
وكنت افتقدت الحب في القلق المردي
أعادته مبعوثا وضيئا مرفرفا
كما رفرف الفجر الوليد على المهد
فهل يستعيد الحب ماضي رجائه
ويسمو على الحرمان والخوف والحقد
ويبني لنا ملكا يعز نواله
على غير فنان طليق من القيد
أم المثل الدنيا تهد مثاله
وترجعه نهبا لأيامه التلد؟!
1943
دمعة وابتسامة
(1) كتاب خليل مطران بك
مصغر عن الأصل. (2) رد صاحب الديوان
دمعتي وابتسامتي توأمان
وسكوتي عذاب روح يعاني
ليس قصف المدافع الليل حولي
وصفير القنابل المتداني
والخراب الذي تطاير قربي
وصراخ الورى بكل مكان
وعويل النساء حول الضحايا
وبقايا المتاع والجدران
والظلام الذي يكفن دنيا
ي، وقد عريت عن الأكفان
ليس هذا، وليس ذا
ك، ولا الحرب بأهوالها لنا كل آن
بالتي تلجم المحب لك البا
قي على العهد في مدار الزمان
إنما ملجمي تعذب وجداني
لأهلي، لشعبنا الغفلان
الذي لم يزل على اللهو، مفتنا
ولو ضاع في افتنان الجبان!
يا صديقي ويا إمامي وعمي
وملاذي كأنه دياني
عش مديدا بصحة وحبور
وأعرنا خوالد الألحان
ليس كتبي وليس شخصي سوى بع
ضي، فيكفيك منتهى إيماني!
1943
مجدا
(تحية للطفلة العزيزة كريمة الصديق الأستاذ الدكتور حنا برسوم.)
مجدا يا مجدا
ستبلغين المجدا
تبسمي يا شاعرة
إلى الحياة الزاهرة
واستقبلي الأعواما
النور والأنغاما
والأمل المستعذبا
وصفو أحلام الصبا
واستعجلي الأياما
واستبقي الأحلاما
لتدركي (مصباحا)
1
استأذنا المفراحا
وتنعمي بجلسة
من أنسه أو زفة
كأنه (الرشيد)
مؤله معبود
تحفة القيان
والحور والولدان
ويرتجي في (المعهد)
إمام دين مفرد
يوزع الأنس لنا
كالشهد حلوا يجتنى
ولا يبالي بالورى
ولا بدنياهم درى
يحيا حياة الآلهة
لا عيش أرض والهة
ويشرب الأنخابا
فيرقص الأربابا
فأسرعي يا طفلتي
إلى المجاني الحلوة
أبوك مثلي منعم
بفنه ومغرم
وإن يكن مستأثرا
بسره مفاخرا
1943
بسمة الأرض
(مهداة إلى ابنتي العزيزة هدى.)
بسمة الأرض لوجداني معان كم أراها
كنزتها مهجتي الفرحى إذا فاتت سواها
والربيع الحلو يسقيني سناها وجناها
فإذاها في صميم النفس تحيا في رؤاها
جسمتها صلواتي وحناني لهواها
مثلما الصوفي في وجدانه شام الإلها! •••
يا ابنتي، يا «طفلتي»، يا من مسراتي رضاها
إن شببت الآن فالأعوام في ماضي مناها
كلما جاء ربيع بهواها نتلاهى
ذاكرين «الطفلة» الحلوة نورا وانتباها
وسألنا أمنا (الأرض) رضاها ودعاها
فتجلت في ابتسام وأشاعته شذاها
وتقاسمنا على حبك دنيا من نداها
1943
عابر سبيل
الربيع
إصدحي يا خواطري
وامرحي يا مشاعري
وارقصي رقص حرة
غالبت كل آسر
كل حلم عشقته
عاد حيا لناظري
جاء في موكب سما (بالربيع) المجاهر
لم يعد بعد خافيا
سره عن سرائري
لم تكن روحه سوى
روح فن مسامر
جاء سمحا مغردا
ساحرا أي ساحر
أشرب النور والهوى
مسرفا وهو عاذري
وهو يعطي كأنما
رد دينا لخاطري
قلت: مهلا! وإن أكن
ظامئا غير صابر
وادخر بعضه، عسى
يرتوي منه هاجري
فيناجي صبابتي
بهوى منه نادر
نتلاقى وخمره
بين همس الأزاهر
قال: مهلا؟! ومن أنا
غير إحسان عابر؟!
لم تفرق سماحتي
بين عان وقادر
لم أسوف ولم أكن
بالبخيل المحاذر
لم أحاسب مبددا
خاطفا من جواهري
أجلب الفرحة التي
هي دنيا البشائر
كل شيء مسسته
ماس في سمت قاهر
إن حبي عبادة
لم تلوث بكافر
إن حظي رسالة
ألفت كل نافر
إن عمري هنيهة
للمنى والنواظر
وهو عمر مجدد
في نهى كل شاعر!
1943
الوفاء
(تحية حضرة صاحب المقام الرفيع مصطفى النحاس باشا.)
مغاني (اسكندرية) إن أضاءت
فمن شوق إلى الحر الزعيم
لقد حجبوا نوافذها
1
فشعت
بتحنان الحميم إلى الحميم
وحيتك (الطبيعة) حين حيت
كأن البدر في عيد مقيم
إذا عيب الجحود فأي عيب
إذا غمرتك بالحب الصميم
وإن عبدتك منقذها المفدى
ولم تعبأ بشيطان رجيم؟
1943
الصيف
(عند شاطئ إستانلي برمل الإسكندرية بعد غيبة أعوام.)
ما للصخور العاريات تدثرت
بالعشب حين الغانيات عواري؟
فارقتها في رقصة وتجرد
والموج بين معانق ومواري
ورجعت أرقبها فلم أر عندها
إلا شعور السخر باستهتاري
لم يا صخور وقد وصفتك قبلما
حياك من وصفوك من أشعاري؟
إن كنت زاهدة فإني زاهد
والزهد لم يسلم من الفجار
حين التعبد والحنان تلاقيا
في الفن وانصبا مع التيار (الصيف) أقبل فاخلعي لحنانه
ما ألبستك يد الشتاء الضاري
واستقبلي الأمواج مثل مشوق
قد عاد بعد لواعج الأسفار
وتشربي الأضواء فهي ذخيرة
ومن الضياء ذخائر وعواري
هذي الجسوم العاريات هياكل
للحب بين النار والأنوار
لا تسأمي نظرا إليها إن وفت
للفن واحتكمت على الأنظار
وتبتلت فيها العقول وحومت
فيها القلوب بجنة معطار
وتخطرت و(الصيف) فرحان بها
وكأنها حورية الأسحار
أهدى إلى الشعراء من آلائه
ما صن للفنان من أسرار
في كل لون من ظلال حرة
ما يستهين بطائش الثوار
أنا ما أثمت بنظرتي وتصوفي
في هذه الألوان والآثار
فيم (الطبيعة) إن جحدت بناتها؟
فيم (الحياة) استسلمت لإسار؟
فتسمعت لتوسلي، وتجاوبت
وتأملي، وتأثرت بحواري
وتلمست شمس الغروب فأعتقت
من دنها المكنوز للخمار
حتى إذا شربت توهج لونها
بالنار وارتفعت على الأحجار
1943
يوم الجامعة
(حفاوة جامعة فاروق الأول بالرئيس الجليل مصطفى النحاس باشا وبرجال حكومته في الحفلة الختامية لعامها الدراسي الأول يوم 7 مايو سنة 1943م.)
اليوم يوم تحية وفخار
تاهت مآثره على «الآثار»
حفل الزعيم وصحبه بندائه
ونداؤه كالنور والنوار
والنور كان ولم يزل في قدسه
للعلم خير لغى وخير شعار
فاعتز من إعزازهم لندائه
وازداد إكبارا على إكبار
كل الجوارح شاخصات نحوه
في متعة وتأمل وحوار
ودعا إليه العبقري أديبنا (طه)
1
بوثبة خالق جبار
فاستلهم المتوثبون شعوره
وأضاف (للأيام)
2
يوم فخار
وأثابه خلق الوزير ومن ترى (كنجيب)
3
في الأسماع والأبصار
يتساندان جراءة ورجاجة
في دفع مظلمة ورفع عثار
ويؤرخ الإصلاح من تاريخه
فحياته كنز من الأسفار
لم لا وهذي نفحة من جهده
وضاءة بالحب والإيثار؟
شرفت بها (الإسكندرية) مثلما
شرفت بسيرة جدها المغوار
ما كان يجمل بي التغني باسمه
وأنا الأبي على رضى الأقدار
وهو الذي قد ظل عمرا ثائرا
وأنا الطليق بموكب الثوار
لكن تأدية الحقوق أمانة
وكذا الأمانة شيمة الأحرار! •••
يا (مصطفى) اليوم تجمعنا المنى
منظومة في حبك المختار
باهت بحبك أمة لا عصبة
فسما بجامعة سمو منار
ما أنت تعشقه يعيش ويعتلي
ولو انه ملقى من الأحجار
فإذا وهبت لنا رعاية ماجد
فلنا ازدهاء الكوكب السيار
ولنا ضمان الخالدين وما لنا
عن غاية الإحسان من أعذار
أثني عليك ولا أطيل فإنما
أغلى الثناء يصان في إضماري
من كان ينعم بالمحبة حوله
أغنته عن مدح وعن أزهار
من كان يقرن بالنزاهة فضله
أبدا فما أسماه عن أوطار
من كان يعطي الشعب من إيمانه
لباه في بذل وفي أخطار
كم خضت أشتات المعارك هازئا
ورجعت لم يمسسك نقع غبار
تطأ الحوادث والصعاب وترتقي
هام الزمان مكللا بالغار
ومصارع الأهواء تجتاح الورى
ولطالما نزحوا مع التيار
ولكم بكينا من هووا بغرورهم
وصمدت أنت ودست صرعى العار
يا طالما علمتنا ما ينبغي
للعالم المتعلم الصبار
واليوم مجلى بعض ما أسديته
واليوم مجنى الشهد للمشتار
إن جئت أنشد للولاء تحيتي
فهي الوفاء أطل من أشعاري!
1943
الخائن الجبار
(رفع صاحب الديوان هذه الأبيات إلى زعيم مصر مصطفى النحاس باشا الذي يضم حزبه التقدمي «الوفد المصري» العديد من الإقطاعيين كسائر الأحزاب المصرية الرئيسية.)
إلى خليفة (سعد) في مآثره
وفي محبة (مصر) ملء خاطره
دعاء قلب وفي لا يغيره
بعد وقرب، فماضيه كحاضره
لا يشتهي غير إعزاز لأمته
وكل فخر لها معنى مفاخره
ما بالها أصبحت نهبا لكابرها
وهو ابنها المتمادي في كبائره
من علم الخائن الجبار
1
يرهقها
وأنت للشعب حام من جبابره
حتام تذعن للإقطاع صاغرة
ومثل أنيابه دامي أظافره؟
لا يستوي أن تغيث الشعب من خطر
وأن تبيح عديدا من مخاطره
ولا المباهاة في فقر وفي مرض
على الجهالة في أغلال آسره!
1943
فن الجحود
تعودت عرفان الجميل ولا أرى
مبالغتي في الحمد تصغر من ديني
كأني استطبت الفضل للناس كلهم
علي وإن عاشوا على الغدر والمين
وكم فاخروا بالسيئات وأسرفوا
جحودا، وهاموا بالنكاية والغبن
أحاول تعظيم الأيادي التي لهم
وأصغر من فضلي عليهم وأستغني
كأن شعوري أن أراهم أكارما،
وإن عجزوا، حظ تمثل في عيني
فلم أر منهم غير إصغار نخوتي
وجازوا سموي بالتحامل والمن
لدن قدسوا من سامهم كل نكبة
ومن بادل الإحسان بالكيد والطعن
كذلك حال الناس في كل بيئة
وقد حسبوا أن الجحود من الفن!
1944
حواء تندم!
جثت تلهم البحر أسرارها
ويلتهم البحر أنوارها
و(آدم) في قربها شاعر
تناسى الجنان وأنهارها
يغازلها لاعبا صاخبا
فيجني من اللهو أثمارها
ويقطف من أنسها للحياة
وتغنم من حبه ثارها
وقد سقط الموج بعد الكلال
صريعا فهيج تذكارها
وقد طاردته بنات البحار
فمات وفارق مضمارها
ولم ترثه غير لهفى الأشع
ة وهي تبدد أعمارها
فتسكبها في الحصى والرمال
وقد ذوبت فوقها نارها
ويرجع مبعوثه للغرام
ويفني متى نال أبكارها
وتبقى الرواية لا تنتهي
ولو أسدل الليل أستارها
وقد سبحت في المياه الصخور
عرائس تنشد أشعارها
فما بقيت برهة في مكان
ولم تصحب الموج زوارها
تراوغه وهي في رقصها
تمثل للحب أدوارها
كأن (الطبيعة) لما انتشت
أفاضت على الكون أسرارها
وقد أسكرت كل ما حولها
فغنى ومجد خمارها
فقبل (آدم) حواءه
وألهم (حواء) أوطارها
فقالت وقد ثملت من هوى
كما عانقت باسمه جارها: «ندمت وما ندمي للفراق
على جنة جزت أسوارها
وأصبحت من بعدها حرة
وما حررت ثم أطيارها
ولكن لأني لم أجترئ
قديما ونادمت أشجارها
فضيعت عمرا بها طائلا
كأني ساويت أحجارها
وأين الجنان - جنان السماء
من الأرض تكرم من زارها؟!»
1944
حوريات الماء
من وحي شاطئ استانلي برمل الإسكندرية
يا للهوى والغواني الساحليات
اللاعبات بلبي المستحيات
الخاطرات أمامي في مغازلة
غناء في طرف للفن أشتات
عفن الملابس إلا ما تبوح لنا
وسرن للفن آيات وآيات
وللرشاقة لون في تعثرها
بل في تعثرها أحلى الرشاقات
في موكب من أمان شبه ربات
ومعرض من معان عبقريات
تلقف الأدب المحروم متعتها
نبع الحياة لأنضاء وأموات
وأمعن النظر المشدوه محتسيا
خمرا ونارا بلذات ولذات
وتابع القلب دقات خطون بها
دق النواقيس في مجلى العبادات
رفت أنوثتها في كل جارحة
ورف قلبي لها في طي آهاتي
لم تلفح الشمس هذا الجسم عابثة
إلا استحال إلى خمر وجنات
وما تأمل لحظي في مفاتنها
إلا وتاه سعيدا في ضلالاتي
يا ضيعة الحسن واللون الرفيف به
إن لم يخلد بأشعاري وآياتي
ولم يسجل بألحان معطرة
من الحياة ولم يصقل بمرآتي
ولم أشمه طويلا في مناجاتي
ولم أذقه شهيا من سلافاتي
ولم أطعم ترانيمي بنفحته
حتى أعيش بها في عمري الآتي
حتى أهيم كموج البحر منطلقا
وقد يزل ولكن غير زلاتي!
1944
الأمواج
هدهدي بالهدير أيتها الأمواج قلبا إلى حماك اطمأنا
واسكبي الراحة الحبيبة فيه، أنت برء لمثل قلبي المعنى
تغسلين الحصى، وتلك قلوب بعثرت في الرمال حتى دفنا
ثم جددتها نشورا وطهرا، ثم أشبعتها حنانا ولحنا
وأنا الخاسر الذي جاء يستجدي حياة لديك هيهات تفنى
ما ترانيمك الشجية إلا ما تمنى السلام لما تمنى
تتجلى كثورة وهي أمن، وأحب الثورات ما عاد أمنا
مهرجان الضوء نشوان فيه وتغنى الهوى به ما تغنى
ما له مبدأ وليس انتهاء لقلوب تراه حسا ومعنى
كم رويت الغرام عن سالف الدهر وما زال ما تقصين فنا
وتمرين في ثوان بأعمار وتلقين بعد شيبك دفنا
وتكرين للصبى وتعودين بأسنى من الجمال وأسنى
ورتيب الحياة مهما يحاكي بعضه بعضه تنوع حسنا
هجرت مهجتي الحزينة دنيا كل صفو لها تقاضته دينا
وانتهت حرة إليك فما خاب لها مأمل ولم تلق مينا
كل ما قلته جميل وصدق لو أقمنا للصدق والحسن وزنا
وبحسبي أني أسيرك كالضوء دفوق الشعور أحيا وأغنى
حالم فيك لست أرضى لأحلامي بتفسير فيلسوف تجني
أنا حي مستغرق في الهدير العذب لا يستعاض وحيا ولونا
وكأن الأرباب مثلي حواليه أصاخوا وما اشتهوا عنه بينا
فثملنا بما حكى واستعدنا، وحديث الأنام لغو لدينا
وحياة الأرباب ليست تعلى ببيان الورى وليست تدنى!
1944
معركة الحب
ولي غادة ألهتها الحياة
وقد أبدع الحب تمثالها
حييت أقدسها شاعرا
يغني بها ويغني لها
وينأى وإن كان في قربها
كأن على النأي إجلالها
يداعبها وهي إلهامه
ووحي الروائع إن قالها
وتغمره بالرضى تارة
فيلقى الجنان وسلسالها
ولكنها حرمتها عليه
وإن حللت دائما آلها
1
فينعم وهو الكسير الحزين
كأن الحقائق ما خالها
فعاش على الوهم في نفسه
وهدأ بالوهم بلبالها
وإن ضاع في فنه ما أضاعت
بحرمانه العمر آمالها! •••
ويوم أفاء عليه الشتاء
جمال (الطبيعة) فاستألها
كأن جميع الفصول استجابت
نداء له ونداء لها
تلألأت الشمس في زهوها
ولاطفت السحب أطفالها
2
وطافت نسائمه الساحرات
عذارى تهدهد أمثالها
فتوقظ من زهرات نيام
حسانا تخيرن سربالها
وترقص أعشابها نشوة
فتغتفر الأرض إمحالها
وتنعش حتى الجماد النئوم
فيزهى ويعرض إجمالها
3
أجبت (الطبيعة) لما دعت
وكانت فتاتي إقبالها
حججنا إليها فلما مثلنا
نسينا الحروب وأهوالها
ولو أن نفسي تعاني الحروب
وكم قطع الهم أوصالها
فينقذها الفن بالمعجزات
وقد أصبح الفن مثالها
يعالجها بالهوى العبقري
ويرفع بالسحر أحمالها
ويخلقها من جديد مرارا
ويبني ويهدم أطلالها
ويسعدها ببنات الخيال
يحققن في زورة فالها
أطلنا التأمل والفلك تجري
عرائس تسحب أذيالها
4
ومن حولنا الغنم الراتعات
حوى بالنا ما حوى بالها
فلما رأيت فتاتي انتشت
وأصبح حالي إذن حالها
هويت أعانقها شاعرا
وألثمها لثم من نالها
وما الحسن إلا لأهل الفنون
وما الحب إلا رسولا لها!
1944
قلب لا يشيب!
عوذت قلبك يا حبيبي
من أن يكدر بالمشيب
ذنبي لديك تلهفي
هل ذاك ذنب يا حبيبي؟
ما حيلتي في قلبي ال
ظمآن للنبع الحبيب؟
تجري السنون ولم يزل
طفلا تنزه عن مشيب
يلهو ويلعب هائما
لكن بأحلام الأديب
من علم القلب الصغي
ر عبادة الحسن العجيب؟
وتبتلا كتبتل ال
صوفي ذاب على الصليب؟
مرآك جنته وصو
تك لا حنين العندليب
أولم تشاهد حلمه
في يقظة كالمستريب؟
يخشى بعادك حاسبا
دقات قلبك في وجيب
متهللا لك، لا يمل
ل من التطلع كالغريب
يرنو إليك بروح من
دمج بروحك يا حبيبي
ويتمتم الصلوات كالن
نائي بمجلسك القريب
في كل توديع عذا
ب، بل فناء في لهيب
مهما تجلد موهما
إن الشروق من المغيب
لو تنصف الأرباب لم
تتركه للوجد الرهيب
وهو الذي خلقته رو
ح الفن للفن الأريب
خلقته من نور ومن
شدو ومن زهر وطيب
أنت المحاسب عنه إن
لجأ الغرام إلى حسيب!
1944
قبلة أعوام
هذا حنيني إليك
جمعته من سنين
هل تخذلين لديك
عزيز هذا الحنين؟
أهواك أهواك حتى
أصبحت أخشى اللقاء
وبات شعري صمتا
وبات صمتي دعاء
أهواك من كل قلبي
ومن جوارح نفسي
وما ابتهلت لربي
إلا تملكت حسي
وكنت غاية نعمى
تألقت في خيالي
فمن أحبك يوما
لم يرض غير المحال! •••
يا فرحتي في شجوني
ونعمتي في همومي
ونشوتي في جنوني
وجنتي في جحيمي!
كم يسأم الناس حسنا
متى رعاهم بعطف
وقد عبدتك فنا
فصار هجرك حتفي!
ما لي وما للأنام
وهم بخلق العبيد
يا من خلقت غرامي
فما له من مبيد
وكلما مر عام
نما غرامي شبابا
ولو حواني ظلام
وخان غيري وشابا
هذا وصالك أحيا
موتى الأماني الضحيه
خلقت بالحب دنيا
للسحر والعبقريه
أسائل (الحظ) عما
أباحه من جناها
وهل سأعرف يوما
كما - اشتهيت - مداها؟
فيضحك (الحظ) لهوا
ولا يحير جوابا
أكان ذلك سهوا
أم عد حبي عابا؟
أسائل (الحظ) حتى
يبر بي أو يلين
حتى أجاب وأفتى
أني من الملهمين
وقال: دونك وعدي
أنجزته فتقدم!
لم التساؤل عندي
وأنت بالحب أعلم؟!
هذا الجمال وفي
وأنت تشكو الطواف
فما الأبي أبي
إلا على من يخاف! •••
ومذ أجازت هيامي
بنفحة من وفاء
جعلت لثمي كلامي
فلم يمت في الهواء!
فحاسبتني عسيرا
لكن حساب الكريم
وبادلتني شعورا
من الحنان المقيم
قبلتها وكأني
رشفت عمرا جديدا
ونلت مجدا لفني
وحزت كنزا فريدا
قبلتها وهي سكرى
بنشوتي في يدي
وكان لثمي سكرا
بدا على وجنتي
لثمتها وهي ظمأى
مثلي، وتخفي الظماء
وما ارتويت لأنأى
لو كان يجدي ارتواء
تنفست عن عبير
عبير زهر أسير
واستسلمت في كثير
من الدلال الكسير
وأغمضت دون عيني
لحظا رفيق النعاس
هيهات تسديد ديني
لو أن ديني يقاس!
يا للشفاه اللواتي
نبضن بالحب شعرا
وهبتهن حياتي
رشفا أسيرا وحرا
ووسدت في ذراعي
رأسا زها بالجمال
فكيف كيف امتناعي
عن السلاف الحلال؟!
1944
أنانية الجمال
الصبا والجمال يجتمعان
في محياك روعة للبيان
أتملاك ساهما شارد اللب
بروح الصوفي والفنان
وأرى لذتي بقربك حرما
ني، وبعض اللذات في الحرمان
وكأن العذاب أشهى جزاء
للمحب الوفي والمتفاني! •••
ايه يا من لها غرامي مهما
يخلق الدهر أو تمت بي الأماني
أنت روحي، وأي ذنب لروحي
أن تناهت بعالم روحاني
أنت سيان في كيانك جسما
وشعورا مصورا لافتتاني
وشعور الفنان دون حدود
فعلام القيود في ميداني؟
إن تمنعت أي صب هو الأح
رى بحسن منوع الألوان؟
وصلاة الفنان ملء احتضان الحس
ن لا في الصدود والامتهان
كم معان يوحي بها الوصل للشا
عر عزت من قبل، بل كم أغاني!
إن تناءيت أو تأبيت ضيع
ت على الفن فن صب يعاني
ليس شعر الحرمان مهما تسامى
مثل شعر التجاوب الفتان
والجمال الذي يقدس لا ين
سى حقوق العباد في كل آن! •••
إلفك العمر يا ملاذي وإلها
مي ويا من غرامها ديواني
كم أضحي معذبا، كم تسري
ن، وكم تستطاب لي نيراني
لو قدرت الذي أكن من الحب
ب لكنت ارتضيت ما أرضاني
إنما أنت في سمائك والرب
ات فوق الورى وفوق الزمان
لا تبالين أن تضحي قليلا
لحياة الورود والريحان
عذرك الجم أن صفوك شيء
غير صفوي، وشأنه غير شاني
لغة عذبة الطفولة تنسى
كل شيء سوى رضاها الأناني
فاعذريني إذا لجأت إلى (الأر
ض) وبدلتها وفيا حناني
شاكيا منك، سائلا طبها الشا
في، وأين الشفاء للولهان؟!
1944
غرام وانتقام
رثاء أسمهان
أيندثر الفن؟! يا للقدر
ويجنى على الحسن حتى الحذر؟!
ويغرق في اليم هذا الضياء
وكم طاف بالكون حتى عثر!
وكنا نخاف حنين القلوب
إليه، ونخشى وثوب النظر
كأن الحياة التي ألهته
أبت أن يشام بغير الصور
كأن الغناء الهوى والشباب
وقد مثلا سره المدخر
فحينا نكيفه باللحون
وحينا نكيفه بالشرر
فكيف تبدد؟! يا للممات
يضيع الكنوز ويبقي الحفر! •••
ملقنة الفن أحلامه
وتمثاله الرائع المبتكر!
وشادية بأرق الحنان
وعذب البيان لحسن نفر!
وعاطرة بأريج الغرام
تمثلها (الأرز) لما عطر!
وخاطرة تشرئب القلوب
إليها، ويصغي إليها الوتر!
يفيض الدلال عليها الجمال
أفانين يهفو إليها الزهر
وينتظم الحسن ما يشتهيه
خيال المنى ونعيم البشر
كأن (الطبيعة) منها استمدت
بهاء الفصول ونور البصر
فمنها نضارة شدو الربيع
ومنها حرارة صيف خطر
ومنها شذوذ الخريف الشريد
ينوح ويضحك بين الشجر
ومنها جواهر ثلج الشتاء
ولهو الرياح ولحن المطر
فكيف برمت بها في الحبور؟
وكيف يكون النعيم الضجر؟
مفاتن لم يمتلكها جمال
سواك، فلما احتواها اندثر
كأن مواهبك الرائعات
بإعجازها تتحدى القدر
كأنك أنت التي نشأتها
ولم تتجاوز حدود الصغر
فكيف إذا حالفتها الحظوظ
وفاض الغدير وعم الثمر
ولم تبتدرها عوادي الزمان
فيطوى الكتاب وينهى السفر
فوا لهفة الفن مات العزاء!
ويا لوعة الحب، مات القمر!
1945
رثاء أحمد محرم
(وجهه صاحب الديوان إلى عميد الشعر العربي خليل مطران بك.)
لم يبق في الناس من خير ومن أدب
فمن أعزي إذن في شاعر العرب؟
ومن أرجى مثيلا في مناقبه
سوى (خليل) عميد الشعر والأدب؟
حفظتما اللغة الفصحى كصونكما
مكارم الخلق عن عات ومغتصب
وكنتما فرقدي فن وفلسفة
على وشائج لم توهن ولم تغب
إن قطع الموت أسبابا مؤصلة
فأنت واصل ما قد بت من سبب
لك العزاء أمير الشعر، سيده
يا عارف الفضل من دان ومغترب
في الشاعر الفحل يستعلي الخميس به
في نشوة النصر فوق الجحفل اللجب
المرسل الصيحة الكبرى مدوية
والمنقذ الحق في شعر من اللهب
جم الإباء تراه في تواضعه
كالشمس دانت وما دانت لمقترب
من يستهين بها يلقى خصاصته
ومن يدين بها يغنى عن الذهب
ضخم المروءة لم تقعد نحافته
به ولا جسمه الواهي عن السبب
في كل يوم أياديه مرددة
ولو تقاصر عن جاه وعن نشب
وكل حين له شعر تتيه به
محافل الأدب العالي من الطرب
فللحماسة آيات مغلبة
في ثورة الحق لا في سورة الغضب
وللروائح في تاريخ نهضتنا
ما صاغ من عجب أو رد من صخب
وللتغزل ما جادت أنامله
حتى استعاد (أبوللو) عصره الذهبي
وللتفلسف في تحليل مهجته
خوالد رنحت أعطاف مكتئب
يتلو بدائعه الراوون في جذل
وينعمون بما أسدته للحقب
كأنما كل بيت جاء يورثهم
كنزا من الدر أو ذخرا من الحسب!
أمثل هذا يعفي ذكره كسلا
عن واجب، أو يوفى جد مقتضب
والشهب تسقط أشجانا محرقة
من النجوم ويشجى بارق السحب؟
إن جاز نسيان من لله نسبته
ومن يمد جمال الكون بالطنب
فأي معنى لدنيانا وزخرفها
وللحقيقة إن عدت من الكذب؟
1946
رثاء زوجتي
ماذا تفيدك لوعتي وبكائي؟
هذا فناؤك مؤذن بفنائي!
أسديت عمرك للحياة فما وفت
ومضيت للأبرار والشهداء
لهفي عليك وقد أتيت مودعا
فبكيت فوق جبينك الوضاء
زاد الممات جماله وتناثرت
مني الدموع عليك كالأنداء
كانت حشاشتي المذابة حرقة
وبقية المكنوز من نعمائي
فترنحت بفجيعتي، وتضوعت
بسريرتي، وتلألأت بوفائي
وروت محيا كان جنة نعمتي
وملاذ تفكيري ووحي ذكائي
وطرحت آلام الحياة عزيزة
فبدوت بين سماحة وصفاء
وأقبل الوجه الحبيب، وطالما
أودعت فيه صبابتي ورجائي
شمل السلام هدوءه، وتبددت
غير السنين، وزال برح الداء
وأكاد أنسى للممات خشوعه
لما نسيت تجلدي ومضائي
كم كنت أعلق بالخيال توهما
وأرى الشفاء ولات حين شفاء
ويغالط القدر العتي تفاؤلي
وأنا الخصيم لخدعة ورياء
آبى اعترافا بالممات كأنني
لما بكيتك قد أضل بكائي
أو أن هذا الموت حق ثابت
إلا على الأحباب والخلصاء
أو أن عيشي أن أراك بجانبي
مهما هزلت فلا يهد بنائي
أعتاض باللمحات عن أغنية
وعن الحديث العذب بالإيماء
وأعد أنفاسا وهبت ذخيرتي
وحفيف ألفاظ همست رخائي
وأموه الألم الدفين وأتقي
علما به، وأصده بغبائي
وأكاد أقسو في مجانبة له
أو ليس جسمك رمز كل نقاء؟
متنزها عن كل ما شان الورى
مترفعا عن علة وعفاء
حتى صدمت، ولا كصدمة شاهق
متحطم بصخوره الصماء
فجننت من حزني وعفت حصافتي
ودفنت كل رجاحتي العمياء! •••
لهفي عليك زميلتي في رحلتي
وشريكتي في الصفو والضراء
لم أرض غيري أن يسير مشيعا
أو أن توزع حرقتي وعنائي
وكتمت نعيك، كم أضن بذكره
وأحوطه بنهاي واستيحائي
لبيت رغبتك الزكية دائما
ووعيتها نبلا ولطف حياء
وجعلت مأتمك الرهيب عواطفي
وبخلت بالتنويه والإفضاء
حتى تفجر بي الأنين ملاحما
وجرى النظيم بأدمعي ودمائي
ما كنت أحسب أن يومك سابقي
أو أن أيام الحياة ورائي
كنا نهيئ للرحيل
1
متاعنا
وننسق الآمال غير بطاء
ونهيب بالدنيا لتشهد حظنا
ونهش للأيام والأنباء
ونرد عادية الأنام تسامحا
مستغفرين لجاحد ومرائي
متسابقين لنملأ الدنيا سنى
بالحب والإيثار والإيحاء
فإذا رحيلك للنوى، ووداعنا
للحظ، والباقي الكليم ذمائي
غدرت بي الدنيا، كأني لم أصغ
فيها الثناء، فما أفاد ثنائي
ووهبتها - كرما - عزيز مواهبي
فجنت علي شهامتي وعطائي
اليوم أدرك أي عبء فادح
عني رفعت وما مدى أعبائي
كم كنت أحلم بالهناءة والرضى
لك في نهاية عمرك المتنائي
وأود من قلبي بقاءك بعدما
أفنى وأحسب في هواك بقائي
وأعد عمرك وحده عمري وما
أرضى سواك من الحياة جزائي
فتناثر الحلم الجميل وأقفرت
دنياي من حلم ومن أضواء
وبقيت وحدي لا عزاء أرومه
والذكريات تزيد من برحائي
يا طالما ناجيتها في نشوتي
واليوم قد أصبحن من أعدائي
ما نعمتي فيها وأنت هي التي
جعلت بصحبتها الأسى نعمائي؟ •••
يا من فتنت بكل ما هو رائع
وخلقت ألوان الجمال إزائي
ورسمت لي دنيا منوعة الشذى
قدسية الألحان والأصداء
وبثثت بي حب (الطبيعة) فاغتدت
أمي، أضعت عزاءها وعزائي
يا من غناؤك شدوها وحنينها
وصداه في قلبي الشجي غنائي
لما سكت تقاطرت عبراتها
واستسلمت للوعة الخرساء
ومضى الربيع مع الشتاء فلم أجد
إلا مظاهر وحشة وخلاء
تبكيك أخلص من وفت لروائها
وتصوفت بمروجها الغناء
ورأت بها الخير اللباب فما شكت
منها وناجتها أرق نجاء
وتناولت ألق النجوم فأترعت
منه دنان الحب للشعراء
كم ألهمتني من عيونك صورة
جمعت أحب عواطف ومرائي
وتبسم تتبسم الدنيا له
ويغيب عن معنى وعن خيلاء
ورشاقة معسولة ملحونة
كقصيدة خلابة عصماء
كم كنت أهتف بالنشيد ولم يكن
إلا خطوط جمالك الوضاء
تجري اليراعة في يدي مزهوة
بتغزلي ويهزني إملائي
مترنما بالحب بين ولائم
للزهر والأمواه والأضواء
وإخال في دعة المروج جناننا
وأشيم في ألق الغدير سمائي
أيام كنا والشبيبة والهوى
حلفاء في أمن من الغرماء
أيام كنا نستعيد ثراءنا
قبلا، ونضحك من غنى وثراء
أيام كنا الحاكمين بأمرنا
الساكنين منازل الجوزاء
أيام كنا ذاهلين عن الردى
نجري ونمرح في الربى الفيحاء
ونخوض موج البحر ملء دعابة
متعانقين على هدير الماء
متحمسين كأنما خمر الصبا
خمر الألوهة من أعز سماء
متلمسين بكل شيء لذة
ومطوعين المستحيل النائي
وإذا غضبنا عاد حبك غافرا
وتعثرت شكواك عند ندائي
وفرحت بي فرح الحبيب بإلفه
قد عاد بعد مخاطر هوجاء
عشنا السنين كأنها أنشودة
علوية جلت عن الضوضاء
متجددين، وإذ فقدتك لم يكن
فقدي لغير فتاتي الهيفاء
من رامها أهل الفنون نموذجا
للمبدعين ومن لها أهوائي
من صوتها الحلو الشجي سلافتي
وحنانها العذب السخي دوائي
من لم تدع غير البشاشة وحدها
تفشي خواطرها لنقد الرائي
من أشربت حب الدعابة سمحة
واستضحكت لمصاعب الأشياء
من لم تر الدنيا سوى تغريدة
فأبت هواجسها أشد إباء
من لم تردد غير آمال الصبا
لتردني لطلاقتي ورضائي
من عشت أفديها بكل جوارحي
فإذا الفداء يهون وهي فدائي
من علمتني أن أقدس واجبي
مهما شقيت فأستطيب شقائي
من لم تودع في السقام وفاءها
للناس حين مضوا بكل وفاء
من لم تفارقها الشجاعة مرة
حتى الممات، شجاعة العظماء
فمضت وخلتني وحيدا عابرا
قفر الحياة أنوء بالأنواء
هيمان، قربك وحده مستنقذي
ظمآن، ليس سواك ري ظمائي
أقتات بالحزن المبرح راضيا
وأعاف كل ملاحة وسناء
وأضعت فني بعد موتك في الأسى
وكأنما صور الجمال بلائي
من طالما ناجيتها متغزلا
غردا، فمات بهاؤها وبهائي
كانت لروحي منك أنس مدامة
ومجال أشواق ونبع صفاء
ومثلت أنت بكل ما أحببته
فالآن أين تهافتي ونجائي؟
أين ابتسامتك الشذية بالمني
والنور حين أهيم في الظلماء؟
أين ابتداعك للحديث تفننا
وتسلسلا يغني عن الندماء؟
أين اغتباطك بالمروءة والندى
والعطف والغفران والإسداء؟
قبرت كما غاب النهار أشعة
وكأنما أشلاؤها أشلائي
وتركت في دنيا القساوة والأذى
متهالكا أمشي على الرمضاء! •••
قالوا تصبر! إن حولك رفقة
منها، وحسبك صفوة الأبناء
ورثوا مكارم خلقها وسماتها
إرثا تدل به على الآباء!
يا ليتهم عرفوا شمول عواطفي
ووفاء وجداني وصدق ولائي
شيم شقيت بها، وما عف الورى
فأثارهم شممي وفرط إبائي
وبقيت أسخر من جراحي هازئا
بفواجع الآلام والأرزاء
مستلهما من لم تدعني مرة
في الحادثات أضيق بالأحياء
فالآن بعد ذهابها ومصابها
لم يغنني شممي ولا استعلائي! •••
تمضي الحوادث والسنون وتنقضي
أمم على أمم صباح مساء
ويظل قلبي هيكلا لك خالدا
أبدا يرتل لوعتي ورثائي!
1946
وداع مصر
كتاب من أستاذي خليل مطران بك
أهديت إلى أستاذي خليل مطران بك - 14 إبريل سنة 1946م.
أودع (النيل) في توديع شاعره
وقد أودع نفسي في مشاعره
وما أقبل طرسا
1
جاء يغمرني
بالحب إلا وقلبي في خواطره
ولا أفارق أستاذا تعهدني
كما أفارق كنزا من جواهره
ولا أباعد أوطانا أقدسها
إلا وروحي رهين عند شاعره
تبا لدنيا تديم الحر مغتربا
فيها، وأخرى تناءت عن سرائره
لام العذول، وما أقسى ملامته
ولن ألوم عذولا في دياجره
حسبي رضاؤك عن خلقي وعن أدبي
وصدق عهدي بماضيه وحاضره
لن يعرف المرء إلا من أرومته
وليس يعرف تبر من ظواهره! ••• (مطران)! يا من أناديه بلا صفة
ففي اسمه كل ما يغني كخاطره
هذا نشيدي بلا وزن وقافية
وإن تسلسل ألحانا لآسره
أزجيه آخر ما أزجي
2
ويدفعني
حب كحبك، مشدوها كحائره
إن حال سقمك في يوم شجيت به
دون الوداع فسقمي غير ظاهره
هل عودة أم تناء لا حدود له
فغربة المرء أنأى من معابره
وغربة الفكر في دار يمجدها
أقسى على الحر من فقدان ناظره
وهل أراك بيوم مسعد نضر
مضمخ بزكي من مجامره
تحررت فيه أذهان مكبلة
وحطم الشعب فيه عجل قاهره؟
لعل بضعة أعوام سأرقبها
تحالف الحظ في تجديد زاهره
وعلني حينما ألقاك ثانية
أراك باعث شعب من مقابره! •••
هل يعلم البحر من أفدي ومن خلقت
حشاشتي كمثال من مآثره؟
الملهم الجيل بعد الجيل ملحمة
من السمو تجلت عن شعائره
والواهب العمر للفنان ينزله
منازل الخلد في أسمى منابره
إن كان يعلم فليصمت على ظمئي
ولا يراود فؤادي من مزاهره
وليتق الحب في روحي وفي مثلي
فما أبالي الغوالي من جزائره
رقصن في السحر الموهوب أخيلة
والبحر يهدر تحنانا لساحره
من خلد الموج آيات مجددة
وجدد البحر إعجازا لزائره
أو لا، فما هو بالإغراء يجذبني
إلى الضلال تهادى في عساكره
ولن أبدل من عزمي وإن شقيت
نفسي بمنفاي في أقسى مخاطره
وكيف تشقى بدنيا غير صاغرة
لم تقبل الظلم في شتى مظاهره؟
إن طالبتني بجهد فوق محتملي
بذلت عمري عزيزا عن صغائره
هذا شعوري والتوديع أرقبه
كأنما أنا مولود بآخره! •••
يا (مصر) إن أنس لا أنس الهوى ثملا
على ضفافك في شتى عناصره
رضعت فيك حناني للجمال، كما
ركعت فيك لساميه وطاهره
لألبثن وفيا لا يغيره
عادي الخطوب، أبيا في ضمائره
لئن أميت كفاحي في منابته
فسوف يحيا كفاحي في مهاجره!
1946
استقبال أمريكا
28 أبريل سنة 1946
أمانا أيها الوطن السعيد
لقد دفن الردى ومضى الوعيد
فأمسي مأتم لفراق أهلي
ويومي الحر في نجواك عيد
عرفتك ملجأ الأحرار دوما
إذا ما حورب الحر الشريد
أقبل تربك المعبود برا
وألثم راية لك لا تبيد
ولو أني المخلف في بلادي
معالم حبها باق أكيد
ولو أن الرجال بها استرقوا
وفيك تحرر السود العبيد
تضيع مجدها الأسمى رياء
ومجدك دائما حال وطيد
أردنا أن نقومها فآبت
وعوقبنا، وصال المستفيد
وضحينا لعزتها فآذت
كرامتنا، وبش لها الحسود
وعاث بها الدخيل فبجلته
وفداها ابنها وهو الطريد
يحال العلم جهلا في رباها
وللظلام قد زف القصيد
وللتهريج سلطان يرجى
وللطاغوت يستبق السجود
وأيسر من وداعتها اتهام
يخص بشره البطل المجيد
إذا استشرى الفساد فكل خير
يذم، وكل مذموم حميد
لجأت إليك يا وطنا تغنى
به الأحرار واعتز النشيد
فإنك منبري الحر المرجى
وبدء نهاي، بل عمر جديد
1946
هكذا حدث ... رثاء نسيب عريضه
(ألقي في حفلة تأبينه بنزول تاورز في بروكلن مساء 15 مايو سنة 1946م.)
ما كان عمرك موهوبا لإنسان
ولا لإحساس هذا العالم الفاني
ولا لأرض وأوطان حننت لها
فالعبقرية لم تخلق لأوطان
والشاعرية لم تقصر منازلها
على الحياة ولو من رسم فنان
بل كان عمرك آيات هتفت بها
ولم تفسر بإنجيل وقرآن
ولم تكيف بأوصاف ننمقها
ولم تقدر بمقياس وميزان
ولم تخصص، فحتى أنت كنت بها
في نشوة، بين مشدوه وحيران
ملء الزمان تناجينا وتسعدنا
وتحمل النور ميراثا لأزمان
وتبعث الوحي فينا وهو ينقلنا
إلى عوالم من حسن وإحسان
تشام بالروح أطيافا وأخيلة
علوية، وجنانا دون جنان
أكن من صنعك الفتان أم نشأت
عن معجزات سمت عن خلق إنسان؟
لعل في مقبل الأجيال عارفها
إن فات تعريفها روحي ووجداني! •••
يا شاعر الهمسات الساميات بنا
المبدعات لنا قدسي ألحان
كأنها صلوات لا حدود لها
يغني الوجود بها من قلبك الحاني
جم التواضع، جم العلم يسعده
أن لا يميز في مدح وشكران
وليس يبخس إلا نفسه أدبا
كأن أخلاقه أخلاق ديان
وليس يعرف غير الحب منقبة
ويحسب الزهو من أوزار شيطان
يحنو على الشعب في البلوى ويسعفه
ويستثير شعور الغافل الواني
ويرفض الضيم حتى لو أتى ملك
به، وكان رسالات لأديان
يا حامل العبء في إيقاظ أمته
حملت عبئين بل رزءين في آن
ما بز آثارك الغراء مبتدع
ولا بنى فوق ما أعليته باني! •••
تركت (مصر) وقلبي ذائب حرقا
وجئت أطفئ لوعاتي ونيراني
وكنت جانبت أطياف الربيع بها
وقلت حسبي بكم جنات (لبنان)
ومذ وفدت رأيت الربع مكتئبا
كأن أحزانه من لون أحزاني
فلا الجمال قرير في مباهجه
ولا النسيب على روض وأفنان
كأن (آذار) عاداه وباعده
وما رأت عينه أفراح (نيسان)
ما للبشاشة قد ماتت بنضرته
وللأزاهر ما هشت لبستاني؟
وللجداول قد غصبت بحسرتنا
كأنها لم تكن راحا لريحان؟
وللنسيم قتيلا بعد عاصفة
وللسحائب في رعد وأدجان؟
وللطيور التي كانت مغردة
تنقر العشب في يأس وإذعان؟
وللنواطح لم يشمخن في نظري
وللروائع قد خيبن حسباني؟
شاهت جميعا بعيني بعدما حرمت
لقاء من عشت أهواه ويهواني! •••
جعلت قلبك قربانا وتقدمة
للناس، والآن ما حبي وقرباني؟
وما رثائي من آثاره عمم
وكل بيت له كنز لديوان؟
أغنيت عن كل صيت من عوالمنا
وعن بكاء وتمجيد وعرفان
وعشت فينا غريبا، فلتعد ألقا
لموطن الأصل أو للموطن الثاني
فأنت وحدك تدري الآن ما عجزت
عنه مواكب أذهان وأذهان
وحسبنا ذكريات منك عاطرة
وموحيات بأنغام وألوان
وخالدات من الإيمان ناصعة
تهدي العزاء وتسمي كل إيمان •••
من مات موت شهيد لم يمت أبدا
وقد تبدل أبدان بأبدان
ومن تكن نفسه شعرا وفلسفة
وبسمة من أغاريد وأوزان
يأبى الإسار، وإن وافى مجاملة
من الشموس، ويأبى العالم الفاني!
1946
ذكرى المهرجان اللبناني الكبير
(في ترنتن نيو جرزي سنة 1946م (مهداة إلى جمعية النهضة اللبنانية).)
أبناء (فينيقيا) عشتم لأجيال
مفاخر الفن والإقدام والمال
ما عابكم أنكم دنيا لأنفسكم
بل عاب حسادكم عجز بأغلال
تفجر الحزم منكم في مراحلكم
تفجر النبع لم يخلق لإذلال
كلاكما جائش فاضت عواطفه
وسعيه فسما عن فن مثال
كأنما (الأرز) من قدسي منبته
يمتد فيكم بآثار وآجال
وتنتحي أمما شتى بواسقه
فتغتني أمم من بعد إقلال
كأنما كل فرد بينكم بطل
والمجد لم يدخر إلا لأبطال •••
يا مطرب المهرجان الحر قد طربت
مسامع الدهر فارفع لحنك العالي
مضت كوارث ذاق الدهر لوعتها
إذ جنت الأرض واستخذت لجهال
فليسمع اليوم ما أعددت من نغم
يشفي الكلوم ويحيي المنزل الخالي
لا حسن غير جمال الفن يسعفنا
بعد الدموع بأحلام وآمال
من مثل قومك في إنشاد شاعرهم
أو عزف مزمارهم أو وحي موال
في بسطة كانسياب النهر متئدا
أو وثبة كجريء فوق شلال
أنشد مديدا ولا تسأم فمنك هدى
مثل الأذان لحجاج ونزال
ويا أماليد (قاديشا) وزينته
للرقص والشدو هذا المعرض الحالي
حيث العواطف ألوان منوعة
تجمعت في هوى (لبنانها) الغالي! •••
ما أجمل الحب في دنيا تآلفه
حيث الجمال بأضواء وأظلال
حيث (الطبيعة) لم تبخل بزينتها
وحيث كل جلال دونها بال
مدت موائدها الفيحاء فاخرة
وجمعت بين ظبيات وأشبال
من الفواتن من أنطقن في مرح
صخور (لبنان) ألحانا بسلسال
من الفوارس من زانت مفارقهم
غر الأكاليل، أو ركاب أهوال
من أمة صحف التاريخ عاطرة
بذكرها، وعزيز مجدها الحالي
حار الرواة بما أسدت وما صنعت
مدى القرون، وحار الباحث التالي
ولم تزل سيرة للمجد صادحة
ومضربا لأعاجيب وأمثال
أليس من بدع الإقدام ما مثلت
في (المهرجان) بآيات وأعمال؟
قد أرضخوا القدر العاتي لهمتهم
ولم يبالوا بألغام وأوجال
وأطلعوا بيننا (لبنان) في وطن
ما كان للمقدم السامي بخذال
بينا شعوب تعاني وهي صاغرة
في الشرق موتين من ذل وإمحال
من مبلغ أمتي سر الحياة بكم
فقد أضيعت بها في القيل والقال؟! •••
يا وارثي من أضاءوا في مهارتهم
وفي جسارتهم نهجا لأجيال
لعل أعظم إرث في تضامنكم
وفي تعاونكم في غير إدلال
لكم تبعثر أجيال بزلزلة
ولا يفرقكم عاد بزلزال
طوبى لكم، وليكن هذا التراث غنى
فوق الغنى، لم يقوم بعد بالمال!
1946
ثقتي بمآل الإنسانية: دستور لوحدة العالم
(ترجمت هذه القصيدة إلى العربية تلبية لإدارة التعليم في نيو هيفن بولاية كنيتكت للعرض في أسبوع هيئة الأمم المتحدة سنة 1947م وللحفظ في متحف إدارة التعليم هذه.)
إني الأمين على السنين، الحاني
وأنا الوصي على مدى الإنسان
ورهين أحلام سمت بفتوحه
بينا هزائمه على جسماني
تلك الندوب على الجراح شهيدة
وكذاك روعة بأسه الفتان
وعجيب لغز للحياة مقدس
لغز الألوهة والسنى الروحاني
عقلي تمثل في قياس نجومه
ونهاي في استيعاب غير الفاني
وعلى حياتي اليوم يتبع في غد
حكم الذين تتبعوا إيماني
ومقالهم صدقا: «حملت موفقا
إرث البرية عز في الأثمان»
وإذا نما الإنسان في تأميله
بنهاي، أو بحجاي، أو بجناني
وازداد في معنى التفهم روحه
حرا فسوف يعيش في الأزمان
ولسوف تغدو السرمدية للورى
أقصى وأفسح من خلود دان
1947
عيد النيروز
11 سبتمبر سنة 1947م
قبل كأنفاس (الربيع) أبثها
شوقي إلى الوطن البعيد مزارا
وأراه في حضن (الخريف) بنضرة
لا تستحيل بشاشة ونضارا
وأخصه بهواي رغم نكاية
تعلي العبيد وتسقط الأحرارا
وكأن منفاي السحيق مقربي
أبدا إليه، وإن نأى وتوارى
وأغص بالذكرى وليس بنافعي
أن لا أغص وأن أموت مرارا
اخترت هذا العيد يوم تبتل
وتخذت منه مثابة وشعارا
أوليس رمزا للحياة وموئلا
للناس، إن بطش الزمان وجارا؟
عيد تلألأت (الطبيعة) بالمنى
فيه، وألبست الجمال وقارا
هبة من الأرباب كنا أهلها
و(النيل) كان يزفها أدهارا
غنت لنفحته المدائن وانتشت
أمم وأسعد حوله الأحجارا
وازينت طربا معابد (طيبة)
وبدا (أمون) المنعم الجبارا
في عيده القدسي كنا أمة
لا تعرف الأحقاد والأوزارا
كنا نضحي بالجواهر والحلي
فرحا ونعبد ماءه المشتارا
وتشربت إكسيره أرواحنا
نعم الوجود، وأشربت أسرارا
حتى تبوأنا مكانة دولة
بزت، ودان لها الزمان جهارا
ما بالنا بتنا أصاغر عالم
نبذ الصغير، وما نزال حيارى؟
ألأننا فتنا شعائر وحدة
فتبددت عزماتنا استهتارا؟
ألأن أصداء المعابد لم تنل
أذنا، فمات زمانها وانهارا! (أنس الوجود) قضى شهيد وفائه
غرقا وكان الضاحك الثرثارا
وهياكل شتى أطاح بها الأسى
قبل البلى، فتحولت آثارا
هبوا بني وطني لأنبل غاية
ودعوا الصغار وجانبوا الأوغارا
وذروا الدخيل فكم يبث سمومه
لينال من تدويخكم أوطارا
شغلت محافلكم بكل قضية
إلا قضيتكم دجى ونهارا
وتهاون الزعماء في ميراثكم
وتنافسوا فيما يئول
1
دمارا
هبوا وصونوا وحي ماض ماجد
وكفى التطاحن وانبذوا الأغرارا (النيل) بارككم فرشوا دوركم
في عيده بمياهه إكبارا
وتعانقوا بمنى الإخاء، وهللوا
لجلال (مصر)، ومجدوه منارا!
1947
في أتلنتيك ستي
لمن يهدر البحر الحبيب وقد مضت
حياتي، ولم أستبق غير خيالي؟
وقد كان أيام الشباب معللي
وكان نديمي لا نديم رمال
وأنفقت أيامي عليها فردها
من البشر أضعافا بغير سؤالي
أيدعو إلى الذكرى عواطف شاعر
تلاشت على تعذيبه المتوالي؟
ولو بعثت، أنى له بشبابه؟
وأنى له بالحب بعد زوال؟
أهذا هدير السحر في شاطئ الهوى
فليس محالا فيه أي محال؟
تسمعته نشوان ألمس غابري
كما لمس المخمور وهم ليال
وما كان بالإعجاز أو سكرة المنى
فليس بسال كل من هو سال
وقد يكمن الفنان في قلب راهب
كما يكمن الإشعاع طي جبال
فألفيت نفسي في الشباب مجددا
أعب من النور الشهي حيالي
وأشربه ألوان أنس وبهجة
تعالت ولم تبخل برغم تعال
وهذي عروس الماء لم تدخر حلى
على الليل، حتى الليل أزهر حال
أعدت لدى البحر الطروب طريقنا
على جمع ألواح نعمن غوال (سفينة نوح) تلك أم حلم شاعر
تملك فيه الحسن كل مجال؟
وتغتبط الآلاف فيها حبيسة
ولا تعرف الأشواق أي ملال
تروح وتغدو، لا ترى الوقت عابرا
وليس سواه بالوجود يبالي
وما تشتهي أرضا تلوذ بيبسها
كما اشتاق (نوح) في زمان ضلال
فكل الذي تعطاه صفو مبرأ
وكل الذي تخشاه حلو دلال
تدفق فيها النور من كل جانب
إلى أن تراءى بعضه كظلال
وعشش فيها الحب حتى كأنما
تغذى وغذانا بكل جمال!
1947
رثاء عبد المنعم رياض بك
(ألقيت في حفلة تأبينه بنيويورك سنة 1947م.)
صوت من الغرب ناجى روحك السامي
وإن تعثر في حزني وآلامي
جاز المحيط على الأمواج شاردة
شرود قلبي وأحلامي وأيامي
أوفى جريحا كجرحى الحرب منطلقا
من القيود، ولكن مرهق دام
من موطن كنت أحرى من يعز به
إلى مواطن إذلال وإرغام
صينت عن الفكر والتفكير صاغرة
كما تصان توابيت بأختام
لكم سعيت لكي أبقيك موئلنا
فخاب سعيي ولم ينقذك إيلامي
وفتنا بخضم زاخر لجب
وعالم بخطايا الناس دوام
وكنت تمزح في خوفي وفي لهفي
بخاطر كرقيق الزهر بسام
أين الألى طالما أشبعتهم نعما
وما استحقوا، وما كانوا لإنعام؟
رفعت أرؤسهم في غير منزلة
شأن الكريم، فما اعتزوا بإكرام
أين الوفاء، وما أرجوه في زمني
من معشر بين خفض النفس والهام؟
كم حاصروك لأهواء ومنفعة
واليوم شق عليهم بعض إلمام
إن تنس لم تنس في قلب يذوب أسى
وإن تبلور في شعري وأنغامي
يشكو من الغيث من يشكو وفي حرقي
لا يشتكي في وفاء قلبي الظامي
أن الربيع أنيني في عواصفه
وصاح بين تباريحي وأسقامي
وشاب أهواءه ما شاب خاطرتي
من الكلال ولم يعمر بأيام
كأنما كل شيء حال في نظري
إلا مثالك في نبل وإقدام
إلا نزاهتك القصوى لدى زمن
فيه النزيه غريم بين أخصام
إلا وداعتك المثلى يدين لها
من لا يدين لبرهان وأحكام
إلا وفاؤك للعانين تسعفهم
وكلهم من رعايا قلبك السامي
تولي الجميل وما تدريه مغتبطا
وشاكرا شكر مخدوم وخدام! •••
هل يعلم (النيل) أي الناس غيبه
ذاك الأديم، وإن يقرن بأعلام؟
وأي علم وأخلاق وتجربة
قد ضيعت حين إعياء وإعدام؟
وأي فضل وإيثار وتضحية
كن الفداء لأقوام وأقوام؟
قسط النبوغ يجود النابغون به
وقد يجاد بأرواح لأنعام
عاشوا اغترابا بدنياهم وما سلموا
وجاوزوها على نار وألغام
وكل فرد شقي بينهم بطل
وقد يمجد بالتجريح والذام
أو لا، فبالترك يضنيهم ويقهرهم
قهر الجفاف لجنات وآجام
ماذا انتفاعك بالذكرى، وما انتفعت
بك الحياة سوى في بعض أحلام؟! •••
من مرجعي لزمان كنت بهجته
وكان مرآك إسعادي وإلهامي؟
جم السماحة، لا ينجاب عارفه
كأنما هو موكول بأيتام
المدره الفذ لا تدمى مطاعنه
ولا تعاب بإسفاف وإيلام
والفاتح العضب لا تنسى معاركه
كأنها غزوات بين أجرام
يصغي إليه الذي يعنو لحجته
كالصلد يعنو لغمر الجحفل الطامي
لم ينس أمرا إذا ما صال مقتحما
إلا عواقب إجهاد وإقحام
إلا مكانته العظمى، فما هبطت
جهوده لمباهاة وإعظام
كان المثال المرجى في رجاحته
فأين أين المرجى بين أصنام؟! ••• (مدينة النور) لم تطفأ عليه أسى
ولم ينكس بها مفجوع أعلام
وما تذبذب تيار الحياة بها
ولا بكته، وما بالت بأوهامي
ولا المحافل أحياها وأبهجها
ريعت، ولا شاه غرس حولها نام
في كل مرأى جمال كنت أعبده
ولم يزل وحي صداح ورسام
لئن صدفت بحزني عن مفاتنها
فما تبالي بلوعاتي وإحجامي
كأنما لم تزل فيها بشاشته
وعذب أقواله في رجع أنغام
1947
قطرات الندى
من وحي الخريف
وافى الخريف فوافت للندى صور
من الجمال على عشب وأوراق
كأنما أودع العشاق أنفسهم
بها، فما كشفت يوما لأحداق
تلألأ الحب فيها وهي باسمة
تبسم السحر في ألحاظ عشاق
ما للعناكب قد فازت بحليتها
وللحشائش قد رفت بأشواقي
ولم أزل في ظمائي غير مدكر
وما يبالي الندى همي وإخفاقي؟!
إن داعبتها خيوط الشمس راقصة
ذابت نضارا حيال اللؤلؤ الباقي
ولم يعد من مرائيها سوى حلم
كأنما غيرتها فتنة الراقي! •••
غاب الندى ونسيم الصبح يعلنه
سرا أبيح لوجد الشاعر الشاكي
تدري العناكب ما يروي كما فهمت
كل (الطبيعة) هذا الصامت الحاكي
فإن بكت بدموع للندى ذرفت
فقبلها ذرفت في خاطري الباكي
كم للنسيم رسالات منوعة
يشجى الوجود لها أضعاف إدراكي
كأنما هي ألغاز ووسوسة
على حروب ، وحينا همس نساك
تعنو الغصون صلاة في تجاوبها
وفي تبتلها تودي بإشراكي
فما أرى غير دنيا الحب ماثلة
فيما أرى بين أنداء وأفلاك
1947
بماذا سيموت؟
(إن الطبيب يبذل غاية جهده، فلماذا نرتقب أكثر من هذا؟ (الاتشنج أو الرسم الحفري المعدني للفنان الإسباني جويا).)
وطني الحبيب وقيت شر الداء
وأغثت من أهليك في الجهلاء
الموت أبعد عنك حين وباء
من رحمة الجهلاء والبلهاء
ماذا جنيت ليحكم القدر الذي
أفتى بما أفتى من الأرزاء؟
أيرد عنك الألمعي وطبه
وتموت بين سوائم ووباء؟
أحنو عليك وإن نفيت، ولم أزل
صنوا، وقد بتنا من الشهداء
ضاقت بنا الدنيا العريضة واغتدت
أحلامها أحلام كل مرائي
وقد انتهيت إلى فراشك ساكنا
للنزع حين أبوا علي فدائي
هل نافعي كل الذي أغنى به
حولي وكل مشاعر الأحياء
وأنا أراك تئن في أسر الردى
وتثير لوعة مهجتي ووفائي؟
وأنا الغريب موطنا ومغربا
ومحرما أن تستجيب ندائي؟
سأعيش في بعدي رهينك دائما
أرعاك بين تحسري ورجائي
وأهيب بالأبناء رغم عزوفهم
وخنوعهم وعقوقهم وبلائي
فلعله يوما يثير شجونهم
قبل الفوات، فلا يرد دعائي
فتعود للأحياء غير مكبل
وتصيخ للحكماء والعلماء
أقسى من الموت المدمر حالة
تدعو الرثاء لنا من الأعداء
والعصر عصر العلم، من لم يستبق
لحماه ضاع ومات دون رثاء!
1947
بماذا سيموت؟
الاحتمال
تجرعت آلام البرية مثلما
تجرعت في قلبي المآسي حوما
علام اعتناقي للتفاؤل حينما
فؤادي ووجداني به قد تهدما؟
وفيم ولوعي بالوداد أصونه
وقد ضجرت نفسي بأسهمه دما؟
وإن لم تضرج بالصغائر مرة
وإن لم تدنس بالتزلف للدمى
1
وما استمرأت نفسي الخصومة مرة
فلم تتخذها للمنافع سلما
ولكنها تلقى العذاب مخلصا
وتؤثره حظا وتبغيه معلما
وتشقى وما ترضى التقهقر موئلا
وترقى وما تسترحم الأرض والسما
ترى ألم الأحرار سر وجودهم
ومن ذلك الحر الذي ما تألما؟
طغى كل يوم مأتم بعد مأتم
ونفسي تأبى أن ترى الكون مأتما
وما ندمت يوما على ما أصابها
من الحيف مهما ذوقت منه علقما
إذا عرف الأحرار حمل بلائهم
فما عرف الأحرار بعد التندما
ومهما شكوا كانت شكاة قلوبهم
وفاء لمعنى ، أو رجاء تلثما
وقد آمنوا بالحق ينصر آخرا
وإن دوخ الظلم البرية واحتمى
وما زلت تغزوني المآسي كأننا
صحاب، وتهواني شرابا ومطعما
بلا كلفة تحيا على بر مهجتي
فآثرت أن أفنى وأن أتبسما
1947
فني وحياتي
أمتي! ما زلت فني وحياتي
فاصفحي، أو فاغمري باللعنات!
لم أقرع، يائسا أو كارها
1
بل محبا ريع من عات وعات
مشفقا إذ جرع الناس الأذى
غصصا عدت أجل الحسنات!
قد أباح (الفن) أمسا مرهقا
وأباح (الملك) إرهاق البناة
2
حينما (اليوم) كئيب عاثر
تحت أقدام المذلين الطغاة
ليس هذا الظلم إلا غمرة
للسداة
3
المستهينين الجناة
ما حوى فيما حوى تبرئة
أو خيالا لمعاذير الحماة
4
بل حوى العسف على ألوانه
ساخرا سخر المجانين الدهاة
أمتي! ما كان شعر صغته
في حياتي غير لمح من حياتي
ما عناني منه قلبي مرة
أو ولوع الناس أو مدح الشداة
مثل آلاف قلوب أحرقت
في عذاب بين أفراح القضاة
كل حسن شاقني في غربتي
منك، إذا ألهمت منك صلواتي
كل آياتي التي أبدعتها
هي بعض من سنا (مصر) الفتاة
أو دعائي شاملا في حبه
عالم الناس المساكين العفاة
لا أبالي النفي أن يسر لي
بعض تبديد لهذي الظلمات
وشقائي، لو غدا تضحية
ما شقائي من عديد التضحيات؟
وليهنأ من عداتي كل من
خانني، ولينعموا يوم مماتي!
1947
قلب والد
(أهديت إلى ابنتي صفية.)
لا أرى للحياة كنها ومعنى
أن تخلت عن الهوى أو تجنى
وسعيد من عاش يعتنق الحب
ومن حاز ملكه مطمئنا
وأراني السعيد مهما تناهت
نوب للزمان غدرا ومينا
أعرف الحب كيف عشت ملاذي
وسلامي، وأملك الحب كونا
وتناهيت يا (صفية) في البر
بقلبي فلم يعد بالمعنى
أي ذكرى أخطها لك إلا
دعوات بها فؤادي تغنى
منذ ما كنت طفلة وأنا أش
دوا بما أرتجي وترجين منا
إن قلب الأب المحب لدنيا
لم تكيف ولم تحدد بمعنى!
1947
القلب الباكي
(وحي باقة من الورد في عيد ميلاد الشاعر.)
هل يعلم الناس نجوى قلبي الباكي
وما أعاني بأشواقي وأشواكي؟
ما نعمة الورد للمحزون آلمه
عطر من الورد حاكى روحه الشاكي؟
إذا تبسم لم يظهر ببسمته
إلا أساي، وإن يجهش فإدراكي
يلقى الشتاء لقائي، لا يدفئه
ما هيأ الناس، منهوكا كإنهاكي
كأن باقته تهدي إلى أملي
عواطف الحب عانت غدر سفاك
كأنما عيد ميلادي يعانقها
على وداع بقايا حبي الذاكي
هن اغتربن الضحايا لا ذنوب لها
كما اغتربت، فماتت موت نساك •••
يا (مصر) لولاك ما فارقت في حرقي
أزكى الجنان، ولا عوقبت لولاك
أهواك في غربتي أضعاف ما سمحت
به المقادير في قربي لأهواك
أبت علي كفاحي عندما أذنت
للغادرين، فعاثوا في حناياك
ما العيد عندي عيد في مباهجه
أنا الغريب، فعيدي يوم ألقاك
على سلام وفي حرية شملت
لا أن أعود لأغلال وأشراك
الثلج حولي أحنى في تحرره
على فؤادي من ضيم بدنياك
والنفي أسعد أيامي إذا فرضوا
ذل الجباه لمأفون وأفاك
يا رب مقترب في حكم مغترب
وضاحك كل ما في قلبه باك
1948
ربيع الحر
ربيع الحر أشرق يا ربيعي
وثب فرحا مع الحمل الوديع
ولا تحجب حياء كالعذارى
سناءك أو صلاتك عن سميع
لقد نم الأريج عليك لما
أريق شفاعة الحب الصريع
ونم عليك همس من غصون
ووسوسة البراعم في خشوع
وسقسقة الغرام تذوب لحنا
بأمواج الضياء على الزروع
وآمال السلام وقد تراءت
نجوما في السماء وفي الربوع
وتحنان الجماد لكل حي
يرف بلهفة الطفل الرضيع
وأنداء الصباح مضمخات
بعطر الحسن في نسق بديع
وآلاف الروائع سافرات
وإن خفيت عن الحس الوضيع
يفيض الجو سحرا عبقريا
تفرد بالأصالة والنزوع
كأن جميع آلهة المعاني
حبته كنوزهن على الشيوع
كأن الكون يخفق في حبور
خفوق الشعر في الروح الرفيع
تقدس كل شيء في عيوني
وقد ران الجمال على الجميع
فكيف إذا سفرت لنا فتيا
بثوب العرس تخطر في الجموع؟
وكيف إذا الأناشيد الغوالي
أغثن الروح من ظمأ وجوع
ولقن العبادة كل قلب
وأطلعن الشموس من الشموع؟ •••
ربيع الحر أشرق يا ربيعي
وثب فرحا مع الحمل الوديع
كلانا كان في عنت وضيق
يعاني الأسر في سجن منيع
وكنت معذبا شاهت نهاه
وكنت ضحية القدر الفظيع
فعدنا اليوم يجمعنا إخاء
وأرض لم تسخر للرقيع!
1948
تحية وفاء
في عيد (الهدى) الخمسيني «الشتاء! الشتاء» صاح بي الجار كأني في حاجة للنداء!
وتنير النجوم حولي وقد بز خيالي وهز شتى المرائي
والضياء الأصيل ران على الدنيا سناء مجسدا لا يرائي
فاتحا كل معقل حجبته عن عيون الورى بروج السماء
لاهيا ساخرا، وقد خضخض الدنيا فزالت معالم الأشياء
وغزا الوقت فامحى كل حد لنهار معرف أو مساء
وإذا بي مشردا وكأني ما شهدت العمران يوما إزائي
وأخوض الثلوج شبه غريق كبلته فوادح الأعباء
شاكرا حظي العظيم، وقد شلت جموع، وشل نفس الهواء
ذاكرا في حرارة الود عيدا يمحى عنده صقيع الشتاء
شغل القلب ذكره فتناسى ما عداه، مستغرقا في الغناء
أي عيد هذا سوى عيد إقدام وفكر وهمة واعتلاء؟
هو عيد (الهدى) الأغر الموافي بمعاني الوفاء للأوفياء
ليس بدعا وقد نعمت بها وقتا حنيني الملح أو خيلائي
هرعوا يحفلون بالعيد أفواجا وزفوا له تحايا الولاء
وتباروا في كل رمز جميل لم يدنس من ريبة أو رياء
شرف للجميع ما هيأ (اليوبيل) من عزة لهم أو رجاء
ليس عمر الخمسين عمرا لأجيال، ولكن لنهضة زهراء
لم تزل في شبابها مبعث الوحي منيعا على البلى والفناء
عززت حرمة اليراعة والرأي ومجد الصحافة الشماء
وتسامت منارة لا تسامي، فقليل لها جزيل الوفاء
1948
الألوهة والكون
كل شيء في الكون سحر عجيب
والغريب القصي فيه قريب
يجهد العلم باحثا بينما وف
فق من قبل واحتواه الأديب
هكذا كل ذرة من كياني
تحتوي العالم العظيم الساني
أنا فان وفي المدي غير فان
وكياني هذا الوجود الرحيب
والإله العظيم هذا الضياء
ومعانيه أجملتها السماء
لا ابتداء له وليس انتهاء
أو شروق لوحيه أو غروب
كل شيء من حولنا يتحول
ولو أن الخلود طبع مؤصل
سوف نحيا على ضروب تشكل
بينما الأصل واحد والضروب
لبنات الوجود موج يدور
قد تجلى به الإله القدير
والجمال الذي به نستنير
غاية للوجود لا تستريب
هو فن ثوى به الفنان
هو كون أرواحه الأبدان
هو معنى ما فاته الإمعان
وتناهى إليه شعر حبيب
ما ابتهالي إلا ابتهال لنفسي
فأنا ملهم جناني وحسي
وحناني إلى الإله وقبسي
من سناه استجابة لا تخيب
1948
حسني الزعيم
(بردى) أيلقى النطع خير بنيكا
ويموت من أحيا العظائم فيكا؟!
لهفي على شعب يباع ويشترى
والبائعون المشترون بنوكا!
تشجى العصور من المآسي حولهم
وتعاف عد طغاتها أهليكا
ماذا دهى الشعب العزيز وقد غدا
صيدا لكل مغامر مملوكا؟
يأبى النهوض كأنما أجداده
حفروا الخنادق معقلا مهتوكا
وتجنبوا رفع الصروح، وآثروا
ذلا، فصاروا الخامل الصعلوكا!
ماذا دهاه وكان موئل عزة
لرجائنا، فأطاحه منهوكا؟
من شجع الإجرام غير رضائه
بالضيم يتبع سوقة وملوكا؟
ساموه خسفا لا يحد، ودعموا
فوضى ذرته الواهن المفلوكا
يا شعب! إن رمت المذلة فاغتبط
أو لا، فأين قصاص من نهبوكا؟
ليس العدو ألد ممن عفروا
تلك الجباه تحكما ورثوكا! ••• (حسني الزعيم)! كتبت ذكرك خالدا
في المصلحين له، دما مسفوكا
يا من ترفع عن صغار خصومه
تعب الخصيم وما أثار شكوكا
إن عد مثلك خائنا لبلاده
نعم الخيانة للعظيم سلوكا
يا حافظ الحرمات، هذي غاية
للمتقين نكاية وحلوكا
شتان بين هوان ما أورثته
وجلالك المزري بمن ورثوكا
الناس هم تلك الذئاب وخيرهم
صلبوا (المسيح) ومجدوا المأفوكا
وقضوا على البطل الهمام بإفكهم
مذ عد للبطل الهمام شريكا!
إن يهنأ اليوم الذئاب، ففي غد
سيروعون من العقاب وشيكا! •••
مهلا زعيم المصلحين فربما
ناب الممات فراح يستهديك
ليرى الأواخر ما صنعت ويهتدوا
وليتمموا بوفاء من يفديكا
ماذا يريد الغادرون - وما دروا
إلا الخيانة - بالنداء ركيكا؟
أنقذتهم، فإذا بهم في دأبهم
مثل العقارب تبغض التحريكا!
وسبقت عصرك والنبوغ جناية
وأبيت شعبك تائها منهوكا
أوسعت صدرك للعداة وهكذا
أوسعت صدرك للرصاص ضحوكا
فارقد! لعل ثرى بلاد صنتها
تحنو عليك حنو من عرفوكا!
1949
غضبة الأحرار
إلى الصديق سلوم مكرزل صاحب (الهدى) في عيد ميلاده:
إذن لم يعد في القوس للصبر منزع
ولم يبق غير الثأر للناس مفزع
لخير لهم أن يشبهوا الريح ثورة
عن الريح تستبكي كما تتوجع
لخير لهم أن يلثموا النطع والردى
عن الذل حين الحر للبغي يركع
حيينا إلى عهد به الجبن دولة
وفيه الأبي الشهم عان مضيع
وأصبح فيه اللص ينهب جهرة
وأصبح رب الحق يرجو ويضرع
ولم يسعف الظلام من جبروتهم
بأكثر ممن للأذاة تطوعوا
فواعجبا تسعى الضحايا لحتفها
وبالشرف المحيي لها ليس تقنع
ووا أسفا للجهل يغلب أمة
فلا الجيش يجديها ولا المال ينفع
ووا ضيعة الآمال في عهد شيعة
تجافت وجافتها المكارم أجمع
كأن لها حظا بتدويخ شعبها
فمن يدها يسقى الردى ويجرع
وفي كل يوم نكبة بعد نكبة
تزعزعها، لو أنها لا تزعزع
فما هذه الأقدار تسحق أمة
وتترك جلادا لها يتمتع؟!
إذا الأمم استخذت ودانت لغيرها
فلا الوهم يغنيها ولا الزهو يرفع
تفوت غنما بعد غنم، ويدعي
مضللها أضعاف ما يتصنع! •••
هنيئا أبا الأحرار بالقدح نلته
وساما، وقد هان الوسام المرصع
ستذكرك الأجيال خادم مبدأ
ودين له الأجيال تعنو وتخشع!
1949
الشاعر السامي
رثاء خليل مطران
إلهة الشعر! عاد الشاعر السامي
إلى عوالم لم تحصر بأجرام
إلى عوالم غناها وأسكرها
كأن أضواءها أصداء أنغام
إلى نهى لم تكيف في منازلها
ولم تحدد بأنفاس وأجسام
إلى منابع للإلهام صافية
فاضت على الشمس والدنيا بأقسام
الأنبياء إلى عليائها انتسبوا
والشاعرية في وحي وإلهام
إلى منارك، فاستعلت كواكبه
ونحن في وهدة هانت وإظلام
تدور لا ملجم يملي مساربها
ونحن ما بين إسراج وإلجام
وتبعث الشعر في خفق أشعتها
جم الفصاحة إن يوصف بإبهام! •••
إلهة الشعر! عاد الشاعر السامي
إلى عوالم لم تحصر بأجرام
لم ينزع الموت إكليلا خصصت به
ذاك الجبين، ولم يظفر بإغنام
وإن يكن قد أثار الهول في مهج
وبعثر الزهر من باك ومن دام
أسري به في بروج لا كواكبنا
تدري مداها، ولا أرباب أحلام
وخلف الفن مكبوتا على وجل
ألم يرزأ بفقد الكوكب (الرامي )؟
طار النعي وبئس الطير روعنا
وهو الجريح بأحزاني وآلامي
ألقى علينا الأسى ثكلا ومسغبة
مبددا ذخر آمالي وأحلامي
زاد الهجير لهيبا فرط حرقتنا
أليس حرقتنا أنفاس أيتام؟
كأنما لم يمت قبلا بعلته
الفاتحون لدولات وأفهام
كأنما عيشه حام لفكرتهم
والفكر ليس له كالفكر من حام
ما أفدح الخطب للعانين ما نعموا
فكل جرح جديد غير ملتام
وما أشق المآسي للشعوب متى
تدوولت بين إحياء وإعدام! •••
هل يعلم الناس أي الناس قد فقدوا
أم لا يزالون في نوم وأوهام؟
وهل بكت (بردى) و(النيل) واضطربا
كالأرز من نوح أعلام وأعلام؟
أصالة من جلال ليس يرفعه
عال من المدح أو دان من الهام
من ساير النهضة الكبرى وهذبها
بالفن والرأي أعواما بأعوام
وما تردد في تكييف مبدئه
ولا تذبذب في نقض وإبرام
ولا تلعثم يوما في رسالته
ولا تعثر في تحطيم أصنام
كأنما رشده الصمصام في فرق
وشعره برء فأفاء وتمتام
أجزت شجاعته الأحرار عن خدع
في عالم زاخر باللؤم لوام
وفاض شؤبوبه ريا لمن عشقوا
أنفاس (طيبة) أو ألحاظ آرام
وأشرفت بعلبك من خرائبها
عرائس المجد في (لبنان) و(الشام)
ألبستها حللا ما نال مشرقها
أعراس (كسرى) ولا أفراح (بهرام)
ما (البحتري) من (الإيوان) موقفه
وأنت في (بعلبك) العابد السامي؟
منازل لك لم ينزل بساحتها
إلا النبوغ، فما هانت لأقوام
شعر تشربه الأرواح صافية
وتستقل به، لا نظم نظام
وشاعر لم يمهد قبله بهدى
مثل (المسيح) أتى من بعد إظلام
جم المروءة، وافي الخلق، ذمته
ليست مطية أحباب وأخصام
يغدو إليه ذوو الحاجات في لهف
وينثنون وكل جد مبسام
وما تعاظم يوما في تفوقه
بل في تواضعه آيات إعظام
كانت زعامته ركنا يلاذ به
دون ادعاء لأحزاب وإحزام
كالنور ليس لأرض أن تخص به
ولن يقاس بأبعاد وأرقام!
قد ضن بالفن إلا للبصير به
كالكنز خبئ في حرز بأختام
وصان تفكيره عن عرض مبتذل
كأنما هو حصن بين آطام
والفكر كالدين حي في قداسته
ملء العصور بآيات وآرام
1
لا كالخرائب والأطلال يسكنها
شبح الفناء وتستخذي لأبوام
ما عززت أمة أودت بعزته
ولا اغتدت دونه في عد آنام
إذا تهاون شعب في كرامته
عز الأديم عليه عند أدام
وإن أسيء إلى الآسي يعالجه
لم يرأم الجرح أو ينقذ بإرآم
2
ما حاربت أمة أخيارها ونجت
أو أودعت أمرها أوهام رجام
هذا هو الخالد الموهوب أرفعه
عن أن تشير إليه أي إبهام! •••
قنعت بالحظ في النجوى ومرتقبي
نعمى حنانك في عودي وإكرامي
يا من أصاخ له قلبي فهذبني
طفلا وكهلا، وأحيا كل أيامي
يا من سكنت إليه العمر ملتجأ
ضافي العزاء، فلم أعبأ بأخصامي
صحبته في خيالاتي، وفي مثلي
وفي حياتي، وفي سعيي وإقدامي
ولم يزل، ... ما لهذا الموت يعصف بي
كما يبعثر تأويلي وأحكامي؟
وما لبرهة عام كنت أرقبها
حالت أبودا وردتني لإحرامي؟
أولى به ساعة تنكيس أرؤسنا
حزنا عليه وتنكيس لأعلام
لا أن تخفض للطاغوت صاغرة
أو أن تطأطئ في بؤس وإعدام
لئن تجرد عن ألقاب مملكة
زانت جبانا وما كانت لمقدام
فالذئب يمرح في ثوب لسيده
وما يبدل غنما ثوب ضرغام! •••
لم يبق لي من عزاء غير ما وهبت
يمناك للخلد من آيات رسام
ومن مزامير جلت في ترسلها
وفي تسلسلها عن أي إدغام
ومن تسابيح مطران أرددها
كأنما هي من أركان إسلامي
ومن أغاريد للعشاق أرشفها
راح الشباب فأنسى جدب أيامي
ما الراح في الخلد موعودا بها أدبي
أرضى بجاماتها عن هذه الجام
ومن أهازيج في معنى وفي صور
هي (الطبيعة) في روحي وإلمامي
ومن عظات وأمثال وفلسفة
جاءت أناجيل فوق المدح والذام
ومن تهاويل للتاريخ تسردها
فنلمح الدهر أحقابا بأيام
ومن صنائع للمعروف سابغة
ساوت ببر لمخدوم وخدام
ومن أحاديث مج الشد مبدعها
وإن توارت بأزهار وأكمام
تنم عن عبقري الفن معجزة
والفن كالحب يحيا جد نمام
ولا أنيس سوى الذكرى لصحبتنا
وكم تثور على يأسي وإحجامي! •••
رحلت في زمن عز الحكيم به
والسائس الحر، بله الشاعر السامي
عن أمة حظها الشكوى بلا خطر
فما تثور على أسواط ظلام
يخشى أفاضلها الأوغاد إن سعلوا
ويركعون لأغرار وأوغام
ويسخطون على مثلي ليقظته
إذ يمدحون ويبكي الشانئ الرامي!
لا يستقرون من روع ومن قلق
ولا يلبون حتى عزم همام
إذا أردنا لها استقلالها نفرت
وما كرامة ذي عوز لقوام؟
كأنما نسيت تاريخ عزتها
ولم تطوف بأهرام وأهرام!
قالوا: قطيع من الأغنام يشبهها!
يا ليتها كقطيع بين أغنام!
يصطاد أرزاقها من لا أكيفهم
وتستباح ركوبا عند إجرام
ولا يقومها نصح ولا عبر
ولا سداد، وتهوى لهو هدام
كم خودعت وصروف الدهر ضاحكة
فخلطت بين أحباب وأخصام
ما بارم الحبل في أعواد مشنقة
كرافع لبنود النصر برام
فأثخنتها جراحات بلا عدد
وأسلمتها لزلات وأسقام
وما ينال وفي حين يرشدها
إلا العقاب وإلا وطء أقدام
الهزل ما زال من أسمى شعائرها
والجهل معبودها في ملكه النامي
أحرارها غرباء لا تميزهم
في حين تعنو لأوشاب وأعجام
لم تتعظ وصروف الدهر تلطمها
ولم تزل رهن أنصاب وأزلام
وتقتل الوقت إسفافا ومنقصة
وثأرها عند بطريق وحاخام
ولم أزل وأنا العاني بخدمتها
شبيهها في ضلالاتي وإيهامي
أحنو عليها وإن حارت على أدبي
وعاقبتني على بري وإنعامي
وطاردتني إلى منفاي جانية
وعددت صفو آثاري كآثام! •••
من لي بقربك حيا ذائدا مقة
عني، وحارس وجدان وأقلام
يؤرخ الأدب العالي بسيرته
وباسمه يهتف الوافي بأقسام؟
ليبك من صفوة الأحرار من عرفوا
من أنت واغترفوا من بحرك الطامي
ومن أبوا أن يعدوا في محبتهم
بين المغالين، لو قيسوا بمستام
ومن يفدون أوطانا نفخت بها
روح الإباء فلم تذعن لهوام
إن كانت اليوم نهبا بعد تضحية
فلن تسام دواما سوم أنعام! •••
عسى الرياض التي ناجيتها شغفا
تبوح بالوحي للسامي وللظامي
عسى الرياح التي شاقتك ثائرة
تفك عني أغلالي وأرغامي
عسى الهدير على الأمواج ينفحنا
بلحنك الحر لم يقرن بإعجام
عسى ترانيم هذا الطل تمنحنا
فرائدا منك في شؤبوبه الهامي
عسى المساء الذي غنيته صورا
من الجمال يغذي حلو أنغامي
عسى الجداول في أبهى وداعتها
تسيل منك حنانا حول آكام
عسى المروج وراعي النحل يلثمها
ترف بالشهد عطفا بعد إجهام
عسى (الطبيعة) في أسنى مفاتنها
تجود لي بسناء منك بسام
إني تأملت في حسن أهيم به
رأيت لطفك في ذهني وتهيامي
في نشقة العطر أو في النور مختلجا
في ثورة البحر، أو في روع آجام
وفي مشاهد لا تحصى دقائقها
أنت وغنت على مزمار غنام
ورنحت كل عشب في تصوفه
كأننا أهل أشواق وأرحام
أزجي رثائي صلاة أنت ملهمها
وإن تكن من حنايا قلبي الدامي!
1949
الطلع والزهر
إلى الصديق الشاعر نعمه الحاج في مرضه بحمى الطلع:
أيشكو من الطلع أندى الزهر
ومن قهر اليأس فيمن قهر؟
سلمت لنا يا رسول الجمال (يسوع) الهوى والهدى المنتظر
تؤانسك المهج الشاكرات
لك الأنس في شعرك المدخر
وترعاك أطياف هذا الخريف
وقد رقصت فوق عزف المطر
ترتل عنك نشيد السلام
فتمضي الرياح ويصغي الزهر
وتهتف بالحب روح الوجود
فيهفو لها كل شيء شعر
1
وتورق عند حفيف الغصون
أمان، ويبسم حتى الحجر
سلمت وعوفيت من كل ضر
وحالفك المستعز القدر
وعشت تمجد في الخالدين
وخلقك دنيا تفوق البشر
ولا زلت منهض شعب أسير
يناجي السماء ويرضى الحفر
تملقه دائما قاهروه
وقد أورثوه صنوف الغير
فأوهم في ذله عزة
وهون ما حوله من شرر
أغثه وقم يا طريح الفراش
قيام النبي أمام الخطر
وجلجل بصوتك في الخافقين
ليؤمن بالحق من قد كفر
وكن كأخيك الشقي الصبور
على بره يستطيب الضرر
يجود بأنفاسه الوافيات
لأوطانه فيلاقي البطر
ويرجمه الطغمة الهازلون
وقد خادعوا الشعب حتى انفطر
2
إذا ما تنحى الهداة الأساة
وخافوا مثالب غر فجر
فيا ويل أمتهم في الهوان
ويا ويلهم من زمان أمر
سأرقب كتبك، شأن الحبيب
يناجي النجوم ويرعى القمر
وفي كل سطر أرى للحياة
معاني تلهمني أو سير
فعجل ببرئك يا ابن السماء
فكم معجز لك قبلا ظهر
حرام سقامك يا من تقدس
عند الفنون بأسنى السور
حرام فعد لنشيد الخلود
وأسمع (أبوللو) فتون الوتر!
1949
جواب الصديق الشاعر نعمه الحاج
وقيت الضنى وأمنت الخطر
وأبعد عنك الإله الضرر
وكل هزار شدا في السطور
فدا لك أو إن شدا في الشجر
أبا الشاديات الزكي الفؤاد
تفردت باللطف بين البشر
أتيت تؤانسني في الضنى
وتبعد عني الأسى والضجر
بنفثة سحر من المعجزات هز
زت فؤادي هز الوتر
ومعجز أحمد فيما مضى
ومعجز أحمد فيما حضر
شعورك ألهب في الشعور
بشعرك يا خير من قد شعر
وروحك جادت على مهجتي
بما جاد للظامئين المطر
برئت وزايل عزمي الخور
ولم يبق للطلع بي من أثر
وما من علاج ولكنه
دعاء الصديق الوفي الأبر
أخي وكتابك فيه الرقى
وفيه العظات وفيه الدرر
وفيه أرق النشيد حكى
أرق النسيم سرى في السحر
تنشقت منه عبير الورود
ونشر الخزام ونفح الزهر
وطالعت فيه رواء الربيع
وما في الخريف سبى من صور
سجاياك تلك حلت واللسان
يقصر مهما عليها شكر
إذا ما شقيت بخدمة شعب
تريه الوفا ويريك البطر
وتصبر صبر الكريم الحليم
فما أنت أول حر صبر
صرخنا إلى أن يئسنا كمن
يخاطب حتى يلين الحجر
ومن غره مظهر في الورى
فإني أرى دونه ما استتر
مدالسة ورياء هناك
وما اغتر من علمته العبر
فما زال للنعرات النفوذ
هي المبتدا عندهم والخبر
وليس لأهلية المرء بل
لمذهبه كان لفت النظر
وقد عجز العلم أن يقهر ال
خرافات فيهم فيمن قهر
يعيشون بالزي في عصرهم
وأفكارهم في زمان غبر
ومن زاد بذخا بتهريجه
فذاك هو السيد المعتبر
ترى ما يسوءك أنى التفت
وأما المسر ففيما ندر
قبور مكلسة نتنها
توارى وزخرفها قد ظهر
فلا أمل منهم يرتجى
فسلم رجاك لأمر القدر
عسى بعد أن يتولى القديم
يحقق في مقبل منتظر
ويعتدل الغصن لكن إذا
غدا حطبا وشددت انكسر
1949
واد وواد
(إلى الصديق الشاعر إلياس عساف صليبا ردا على قصيدة ودية كريمة.)
للفن قدرت شعرك الهادي
وودك المزدري بإضدادي
وليس بي نقمة على أحد
فالكل عندي مثال أولادي
وعظتهم مخلصا فما اتعظوا
وأوقعوا في شباك صياد
من كل غر أو سائس أشر
يشقى شعوبا بوهم أفراد
وعدت في نخوة أذكرهم
فأعلنوا جاحدين إلحادي
يا ليتني مخطئ، وليتهمو
قد أحرزوا ما يسر نقادي
فما أبالي إلا بعزتهم
ولا أعاني من قدح حسادي
إذا انطوى خاطري على وطني
فذاك حبي تراث أجدادي
وليس كرها لغيره أبدا
وأي كره لعاشق (الضاد)؟
صدقت! أني أعيش محترقا
لهم بواد، والجمع في واد
كأنهم أشرفوا على زمن
ماض، وليسوا بعهد رواد
كأنما (الذرة) التي انفجرت
ليست بدنيا لهم بمرصاد
كأنما جعجعات طائشهم
هزائم ألحقت بقواد
وا لهفتي إذ غدت معاقلهم
نهبا، وكانت أعز أطواد
وا لهفتي حين من يخاتلهم
يدنى ويقصى المقوم الفادي
بل لا يصير الذي يبصرهم
إلا شهيدا لنار أحقاد
هيهات أن يبعثوا بضلتهم
وهم مطايا تذل للحادي
وهم ضحايا أبت جهالتهم
أن يستعادوا من كف بداد
لعل أحرارهم سواسية
يحيون يوما لثأر أنداد
وعل يوما به تحررهم
يحين سمحا بغير ميعاد!
1949
كابوس نائب
الرسم للفنان الفرنسي دومييه
أفاق من النوم مستنجدا
كمن حاصرته جيوش العدى
فصاحت به زوجه الواجفه
وقد أوقظت فجأة خائفه «أجبني، أجبني! ماذا دهاك؟
وماذا يروعك؟ ماذا احتواك؟»
فقال: «حلمت بأني مريض!
وأن جناحي كسير مهيض!»
فقالت: «هنيئا بهذا السقام
فلولاه ما نلت هذا المقام
ومن قال إنك حر معافى؟
فلو كنت عاداك كل وجافى!
فنم ملء جفنك نوم البريء
كأنك طفل غرير هنيء
وطوبى لكابوسك المستهام
بك الليل دون جميع الأنام
لعل بذلك فألا جميلا
وحظين أن تطلبا المستحيلا
لعلك تبلغ دست الوزارة
فخل اعتلالك دوما شعاره!
وإياك تبدو رشيدا صحيحا
فتغدو طريدا شقيا جريحا!
كذلك شأن الورى والحياه
بدنيا تدين بذل الجباه
وما الثائر الحر فيها السعيد
ولكنه في عداد العبيد!
فنم يا حبيبي بغير اكتراث
ستفنى النسور ويبقى البغاث!»
فنام وغط غطيط البعير
ورن النخير، وطن الشخير!
1949
كابوس نائب.
تقديس الفن
مهداة إلى الأستاذين الفنانين أدهم وسيف وانلي وإلى مدرستهما الفنية بثغر الإسكندرية.
في سنة 1907م لوحظ طفل يزور المتحف البريطاني بمدينة لندن تكرارا، واضعا في كل زيارة باقة من الأزهار عند قاعدة تمثال إغريقي أحبه، وسرعان ما كان الحارس يزيلها متذمرا من إصرار هذا الطفل المقدس للفن.
1
كالطفل أهدى إلى التمثال أزهاره
فقدس (الفن) معناه وآثاره
والناس تعجب منه وهو مغتبط
وليس يسأم بالقربان تكراره
وحارس (الفن) مزهوا بمتحفه
يزيلها آبيا للطفل إصراره
ترى ولائي للذكرى يمجدها
قلبي، ويمنحها حبي وأزهاره
وأي ذكرى تناجي (النيل) إن كملت
فاتت مآثركم يوما وأنواره؟
ولم تقبل جمالا في مفاتنكم
ملء الفؤاد، وطيفا مخلصا زاره؟
إن أنس لا أنس أعيادا لنا سلفت
في (معبد الفن) نسقى منه أسراره
في كل يوم أناجيها وأعبدها
فكيف حين تهيج اليوم تذكاره؟
وافت رسائلكم جذابة صورا
والمرء يظهر فيما صاغ واختاره
فأي شعر يحاكي بعض رونقها
إذا صببت فؤادي اليوم أشعاره
وأي زهر حري أن يكرمها
وأن يغازلها إن بث عطاره؟
سأستقل بتقديسي روائعكم
كذلك الطفل إذ لم يلق أنصاره
والفن ليس من الدهماء قوته
إن فات من حكماء الشعب أوتاره
1949
إرتريا الجديدة
تحية ونشيد
إرتريا إرتريا!
إلى الأمام سيري!
لا تذعني لدنيا
تعنو إلى القدير! •••
توحدي وضمي
أبناءك الأحرارا
ولتحفظي كالأم
ولاءهم شعارا
بالعلم ثم العلم
والخلق ثم الخلق
سيري مسير النجم
في عالم للحق
ولتبدعي الجنانا
والنور والعرفانا
فترفعي الأوطانا
وتسعدي الإنسانا
لا يرهب المحالا
إلا الضعيف الواهي
فلتركبي الأهوالا
إن شئت أن تباهي
لا فخر بالجدود
مهما سموا وسادوا
الفخر أن تجيدي
ودأبك السداد
يا بنت (نهر القاش)
1
يا أخت (مصر) الصغرى
ما كنت للنجاشي
والعصر يسمي الحرا
بل أنت في العصور
من أنت عند شعبك
مفدية بالحور
2
والكل رهن حبك •••
إرتريا إرتريا!
إلى الأمام سيري!
لا تذعني لدنيا
تعنو إلى القدير!
1949
الواحة والهجير
(رد على كتاب من الصديق الشاعر نعمه الحاج.)
إلى الأديب أديب النفس والخلق
الشاعر الفذ في لحن وفي عبق
شكري لود كريم لست أعهده
إلا بأنداء زاهي الفجر والشفق
وفي (الطبيعة) في شتى مفاتنها
تحنو علي حنو الأم في قلقي
غناء في صمتها أضعاف ما نطقت
أنغام صداحها بالحب والحرق
تشربت روحها روحي وجاوبها
قلبي وذهني بإيماني ومعتنقي
كذا كتابك إذ وافى بجنته
مجلى من اللطف للألباب والحدق
والناس بين حقير في مداركه
وبين عان من الأحقاد مختنق
لا يغنم الحر إذ يشقى ليسعدهم
إلا ضروبا من التجريح والحمق
أهلا بحبك واساني وأسعدني
في عالم عاثر بالمين والملق
كأنني واحة يودي الهجير بها
وودك المحض صوب العارض الغدق
1949
رجع الصدى
(جواب الصديق الشاعر نعمه الحاج.)
أهلا بطلعة بنت الفجر والألق
تزري بطلعة ذات الحلي والحلق
تعزي لأحمد أنفاسا مطيبة
ورد الربيع ونشر المسك في العبق
يا مرسل الشعر نفث السحر منطلقا
تركتني ولساني غير منطلق
من بحر فضلك وافتني بمؤتلق
وقلدتني - فناءت بالثنا عنقي
ذي منة يا شقيق الروح منك إذا
ضاق اللسان بها فالقلب لم يضق
أن تشكر الود - فضل قد سبقت به
لكن على الفضل شكري غير مستبق
حسناء روحك في مرآتها نظرت
لما رأت ما استحبت في من خلق
وكنت أولى بهذا الشكر منك لذا
إليك أرجعه قلبا على طبق
قلبا يعيد الولا ضعفيه متشحا
من الوفاء بثوب نزهة الحدق
دع الأنام ولا تنزل لحمأتهم
هم في الحضيض وأنت البدر في الأفق
جاء المسيح وجاء الأنبياء ولم
تجهل أولئك ما لاقوا وذاك لقي
فاسبح بروحك في جو القريض وعش
للفن في عالم ما فيه غير نقي
1949
النكبة
لم يهزم الناس في حرب مع الناس
بل في حروب الهوى والبؤس واليأس
ليس الصياح بمجد في مآتمكم
بل التحرر من عجز وأرجاس
ولا المباهاة بالتاريخ تسعفكم
إذا قنعتم بأوهام ووسواس
هموا بني أمتي! هموا! فنكبتكم
ليست سوى وزر أخلاق وسواس
هموا ولا تتركوا من باعكم سفها
يختال مصطنعا للحذق والباس
هيهات ما عصرنا الذري منصفكم
مع الخنوع لعبدان وأنجاس
هيهات يسلم إلا كل ذي شره
للعلم يسعفه في دعم آساس
ما للتناسي المآسي، وهو علتكم
لم يخلق النصر للمستهتر الناسي
ولا لمن حظه ترديد جعجعة
ومن يعيش على خوف وإفلاس
هموا! فليس الغد المأمول خاذلكم
في رجع عزتكم أو دفع إيجاس
هموا لبنيان مجد من عظائمكم
تصونه قبل أجناد وأحراس!
فالحق أضيع في أيد تداعبه
بين الغرور وبين اللهو والكاس
والحق أثبت في أيد تقدسه
ولا تساوم فيه أي إحساس
إن كان نصحي لكم قد ساء أحمقكم
فليس غير شعوري الملهم الآسي
ما كنت أبغض خيرا سوف يشملنا
لو صح، لكن سئمت الحق في الناس
وجريهم خلف أوهام مزوقة
جنت عليهم، فماتوا ميتة الياس!
1949
نيويورك
نسيت الجنان وسكانها
ومن ألهموا الشعر إيمانها
وآثرت عاصمة للكفاح
وقد زانها منه ما زانها
كفاح التنافس في الخالدات
تخذن الشوامخ عنوانها
وقدسن مسترسلا في الطموح
أجاد، وأعلين إنسانها
تلألأ فيها ضمير الوجود
وإن سود الدهر جدرانها
فللدين فيها مكان الخشوع
وإن زعموا المال ديانها
وللعلم فيها حياة الجموع
وإن حسبوا اللهو ميزانها
وللطب آياته في سطوع
تضاعف بالشيب شبانها
وللفن منزلة في الذيوع
كأن الهواء الذي صانها
وللهو غايته في الشيوع
ولكن ليسعد سكانها
سمت بمتاحفها الغاليات
قرونا تكرر أقرانها
وشتى معابدها الحاليات
ترتل للسلم ألحانها
وأبقى معاهدها المعجزات
جعلن الحقيقة أوطانها
وأقوى معاملها الخالقات
غرائب جاوزن حسبانها
وأزهى مسارحها الفاتنات
بهرن الفنون وفنانها
سعدت بها رغم هذا الكفاح
ولولاه كنت كمن خانها
فأصبحت عاشقها المستعز
بها والمرتل فرقانها
أغني لها صلوات الشكور
رأى في المصاعب إحسانها
وأمشي على الطرق الصاخبات
فخورا أنافس سلطانها
وأهوى حدائقها الحالمات
قصائد زين ديوانها
كأن السناجيب
1
أطفالها
جعلن الأراجيح أغصانها
كأن الغرانيت في أرضها
صوامع حجبن رهبانها
معابد لا معبد للجمال
يمس المطوف أركانها
ومن حولها العشب جم الرفيف
يجاوب بالعطف تحنانها
كأن الأزاهر يقظانة
ملائك تحرس كثبانها
كأن الجنادب في شدوها
ندامى تسامر ندمانها
كأن الطيور بتغريدها
تلقن للشعر أوزانها
كأن الأشعة رسل (الطبيعة)
تحمل للنبت ألوانها
وتضفي على الصخر تحنانها
وتلقي على الماء نشوانها
أطوف بها لاهيا ضاحكا
كأني منتهب حانها
وإن كان صفوي الذي لا يمل
عبادة من عز أوثانها
ومن للوحوش بأقفاصها
رآى إخوة أسعدوا شأنها
فما زأرت مرة في شجى
ولا عرف الهم خرسانها
وما شمخت ناطحات السحاب
على السفن تمخر خلجانها
وإن سكنت فوق قطر تسير
شياطين نافسن شيطانها
تسير بجوف الثرى كالبروق
وقد تتجاوز إمكانها
حياة تكرر فيها الحياة
وهيهات نقدر أثمانها
وعمر تجاوز عمر السنين
ودين تشرب أديانها
1949
اللاجئون
خرس فمن عن ويلهم يتكلم؟
ومعذبون لهم تقام جهنم
جنت السياسة مثلما جنت الوغى
والظالمون الغاشمون عليهمو
وتشردوا لا يملكون وجودهم
لو كان يمتلك الوجود المبهم
ضاعت معاقلهم، وضاعت قبلها
أمم، وهان معزز ومنعم
ليس المقام مقام لوم شامل
ولعل أول من يلام اللوم
إن المقام مقام نبل سابغ
حتى يغاث من الفناء المعدم
1
إن المصيبة لا مثيل لرزئها
فيما روى التاريخ أو ما يعلم
ليفتت الجلمود من أهوالها
ويدوم البحر الذي يسترحم
وتشق أطباق السماء مناحة
والرعد في جبروته يتهدم
والناس ... ما للناس لم يتأثروا
والأهل ... ما للأهل لم يتندموا
إن الكوارث مفصحات حولهم
تتطلب الأنجاد حين تلعثموا
هذا أوان التضحيات فما لهم
ضنوا بأوهى الواجبات وأحجموا؟
المال مهما جل ليس ضريبة
تؤبى إذا ما هان للحر الدم
وإذا تخاذلت الشعوب وأنكرت
من هم عماد حياتها لو تفهم
فمن المحال لهم، وذلك حالها
بعث ولو عاد النبي الملهم!
1949
عيسى
واهب الحب والجمال
يا معلن (الحق)! لم ينصفك من جهلوا
سيان لاسمك أو لله يبتهل!
نور من الله، ما ألهمتنا قبس
من الإله وما أسقيتنا نهل
لدنا بحبك في الآلام طاغية
وفي المآسي التي قد عقها الأمل
كما دعوناك في الجلى
1
لترشدنا
إلى الصواب إذا ما حفنا الزلل
ألست إلهام هذا الكون أجمعه
ومظهر الخير في الدنيا لمن عقلوا؟
ألست من حمل الآلام قاطبة
عن الأنام، وفداهم وإن جهلوا؟
لكل دين نبي يستغاث به
وأنت للناس والأديان من أملوا
يا صاحب المعجزات اليوم ما برحت
بالمعجزات مآسي الناس تحتمل
إنا نناجيك، لا ينتابنا ملل
وكيف ينتابنا في حبنا ملل؟
ونفتديك، وإن فديتنا سلفا
بصون مبدئك الأسمى ونحتفل
المسلم الحق لا يألو
2
تشوقه
وعنده أنت أنت الفاتح البطل
هيهات يفتعل الإيمان مذهبه
لو أن إيمان جل الناس مفتعل
مرت عصور أمامي كنت أعرضها
ومر خلق، ومر النجح والفشل
وكل ما ملك الإنسان مبتدعا
وكل جهد وعت أيامه الأول
فلم أجد بينها «عهدا»
3
أعز سنى
مما وهبت، ولو قامت به الدول
يا واهب الحب دينا والجمال غنى
لولاهما شاهت الدنيا لمن كملوا
إذا تذبذب من عدوك فاديهم
فما تذبذب لي قول ولا عمل!
1949
شجرة عيد الميلاد
أخت السلام! ربيبة الأعياد!
طرحوك طرح نفاية وبداد
1
لم يمهلوك كأن عرسك لم يكن
عرسا، وحليك كان رمز حداد
وعرفت قارعة الطريق مباءة
بعد الخشوع وفرحة العباد
كم حاصروك مهنئين وأنشدوا
سورا، وكم خصوك بالميلاد
وتباركوا بك خاشعين، فما لهم
نبذوك نبذ ضلالة وفساد؟
وكأنما لم تبق للذكرى يد
سلفت، ولم تمدد إليك أيادي
تطأ النعال من الفروع حزينة
كانت معارض زخرف مياد
ويعافها الكلب الذي بوفائه
ضرب المثال، ويستهين العادي
فتسام من بعد المهانة والأذى
نارا، كأن بها وباء عباد! •••
أحييت ميلاد (المسيح) وبعده
كنت الضحية للمسيح الفادي
1949
الصعود
أسفا، أعود إلى (السماء) كما أتيت بنبع فني
لم ألق في دنيا الأنام سوى المهازل والتجني
دنيا تقوم على الدماء وبالدماء هوى تغني
وتدور طاحنة عقول النابهين وأي طحن
ويسوسها البلهاء من غبن تعانيه لغبن
ومن الخراب يهزها هزا إلى ضغن وضغن (الأرض) كم شقيت بهم كشقاء موتور بأين
1
وهبت لهم أسنى الكنوز فكافئوها بالتدني
صلبوا (المسيح) وشردوا الأحرار بين الخافقين
وحياتهم نقض الحياة تسام في شك ومين
كم أولعوا بالهدم والهدام لا يسمو ليبني
ولو انهم عقلوا جنوا من نارهم جنات عدن
فإلى (السماء) أعود لم يغن التأني والتمني
فحروبها أجدى وأوفى (للحياة) وكل فن
وسلامها أبقى وأنقى للوجود المطمئن
إن تعتبر منفاي فالمنفى أبر إذن بذهني
ولعل أمي (الأرض) في الحالين في ذهني وعيني!
1949
صفحة غير معروفة