من النقل إلى الإبداع (المجلد الثاني التحول): (٣) التراكم: تنظير الموروث قبل تمثل الوافد - تنظير الموروث - الإبداع الخالص
تصانيف
102
كما أن تغير الأسماء من القسطنطينية إلى استامبول يكشف عن العصور والأزمان وقيام الدول وسقوطها وتداول الأيام بين الناس ودورات التاريخ. (4) آليات الإبداع
وتتجلى آليات الإبداع في ثلاثية ابن رشد. يتم وصف مسار الفكر في الماضي والحاضر والمستقبل وبيان مراحله وخطواته الاستدلالية على نحو منطقي، مما يدل على أن ابن رشد يتعامل مع أفعال الفكر وليس صياغات الكلام. وتتم إحالة اللاحق إلى السابق، والسابق إلى اللاحق دليلا على وحدة الموضوع وتصوره. ويحيل الفكر إلى نفسه، من موضع إلى موضع منعا للتطويل والخروج على الموضوع والاستطراد للمقارنة بين الكلام الخطابي والإقناعي مثل «الله إنسان أزلي» وبين الفلسفة البرهانية أو في الشرع وحكمه على الموضوع بالسكوت عنه. ويعني الاستطراد أو «فتح القوسين» أن الحاضر هو الحامل والموجه للماضي، وأنه هو هم الفيلسوف، والماضي مجرد وسيلة وأنه لا بد من الربط بين الوسيلة والغاية. قراءة للتراث، واستمرارا للماضي، وحماية للنفس من قهر السلطة في الحاضر، وتعميقا لفهم الحاضر الذي يقبع الماضي فيه، ومنعا للازدواجية بين الاثنين، وقسمة الثقافة بين السلفية والعلمانية بلغة العصر. وتتم الإحالة إلى باقي المؤلفات والعلوم لبيان وحدة الفكر. ويتم إشراك القارئ في المراجعة والتحقق حتى يكون بينا لكل من اختبر الأمر بنفسه. فالوضوح تجربة ذاتية فردية لا تنتقل عبر وسائل الإيصال بشرط أن يكون شاهدا عدلا وقاضيا منصفا مثل ابن رشد. ويستعمل الأسلوب الإسلامي في الرد على الاعتراض مسبقا بتخيله وافتراضه حرصا على الاتساق في صيغة «فإن قيل ... قلنا»، فالفكر له مراحله الموضوعية، جزء ينتهي إلى جزء، وموضوع يصب في موضوع في خطوات منطقية متتالية. ويظهر الجو الديني أيضا بالرغم من القول البرهاني والخطاب العقلاني.
103
وتتجلى آليات الإبداع في «تهافت التهافت» في مراجعة ابن رشد لأحكام الغزالي على الفلاسفة والتحقق من صدقها ودفاعه عن الفلسفة ضد الهجوم عليها باسم الدين على يد الغزالي ممثل الأشاعرة. كما تم في «مناهج الأدلة» الدفاع عن الكلام ضد تشويهه باسم الفلسفة على يد جمهور الأشاعرة بعد أن تم تقنين العلاقة بين الفلسفة والدين أو بين الحكمة والشريعة، وكلاهما لفظان موروثان في «فصل المقال» هناك علاقة جدلية إذن بين المؤلفات الثلاثة. المعيار في «فصل المقال» وهو التوحيد بين الدين والفلسفة والتطبيق الأول في «مناهج الأدلة»، الهجوم على الكلام الأشعري باسم الفلسفة أي على سوء استخدام العقل في الدين. والتطبيق الثاني في «تهافت التهافت»، الدفاع عن الفلسفة باسم الدين أي على سوء استخدام الدين في الفلسفة. الموضوع في «فصل المقال»، ومركب الموضوع، السلب والإيجاب، في «مناهج الأدلة» سلبا وفي «تهافت التهافت» إيجابا. «فصل المقال» دفاع عن الفلسفة ضد الفقهاء، وجعل النظر واجبا بالشرع. و«مناهج الأدلة» دفاع عن الكلام باسم النظر، و«تهافت التهافت» دفاع عن الفلسفة ضد المهاجمين لها باسم الدين. وكما هاجم الغزالي الفلسفة دفاعا عن الكلام الأشعري في تهافت الفلاسفة هاجم ابن رشد علم الكلام الأشعري في «تهافت التهافت» دفاعا عن الفلسفة. ثلاثية ابن رشد إذن موضوعها واحد، الصلة بين الفلسفة والدين. «فصل المقال» إثبات أن الدين والفلسفة شيء واحد. و«مناهج الأدلة» نقد الإساءة إلى الدين باسم الفلسفة. و«تهافت التهافت» نقد الإساءة إلى الفلسفة باسم الدين. «فصل المقال» إثبات النظرية إيجابا. و«مناهج الأدلة» و«تهافت التهافت» الدفاع عنها سلبا، ونقد غيابها في تناول الكلام أو في تناول الفلسفة.
الأعمال الثلاثة إذن حوار بين المتكلمين والحكماء، بين الأشاعرة والفلاسفة، أيهما أصدق في التعبير عن وحدة الفلسفة والدين. لقد أساء الأشاعرة فهم الدين في العقائد الأشعرية لأنهم أساءوا فهم الفلسفة ووظيفة العقل . وجعلوا التبرير تبرير العقائد وليس فهمها. وأساءوا فهم الحكمة لأنهم ظنوا أنها ضد الدين وهي دفاع عنه باسم العقل، ووظيفته الفهم لا التبرير، أراد الأشاعرة مخاطبة العامة فبرروا لهم العقائد باسم الإيمان الساذج. وأراد الحكماء مخاطبة الخاصة فأولوا لهم العقائد باسم العقل الصريح. لذلك تتكرر نفس المسائل في «الثلاثية» ولكن على أنحاء مختلفة بطريقة متصلة في «فصل المقال»، ومتصلة منفصلة في «مناهج الأدلة»، ومنقطعة في «تهافت التهافت». ويتوه القارئ، ويمل التكرار. فتختفي البنية الموجودة في الكتابين الآخرين. «تهافت الفلاسفة» نفسه قراءة ل «مقاصد الفلاسفة»، وتهافت التهافت قراءة ل «تهافت الفلاسفة»، مما يجعل القراءة كلها نصا على نص، ويقع الفكر في لعبة النصوص، الانتقاء والتأويل والإخراج عن السياق.
وقد اعتمد ابن رشد في رده على الغزالي على اقتباس فقرة منه، بداية فكرة ثم الرد عليها مسألة مسألة. النقد معتمد على النصوص حتى يسهل تحليلها وكشف زيفها سواء في خطأ الرواية عن الفلاسفة أو في سوء تأويل أقاويلهم أو في التجني عليهم والطعن في إيمانهم. ومن ثم يتعامل ابن رشد مع نص الغزالي على ثلاثة مستويات: (1)
إلى أي حد رواية الغزالي عن الفلاسفة رواية صحيحة (التاريخ)؟ وينتهي إلى أنها روايات غير صحيحة، كاذبة أو مؤولة. وما دام النقل عن الفلاسفة غير صحيح فهو غير ملزم لهم بالرغم من كتاب «مقاصد الفلاسفة». ليس الغزالي من الثقات في الرواية عن الفلاسفة. هو موكل سيئ يقر على موكله بما لم يأذن له فيه. أخطأ الرواية عن الفلاسفة، وأساء تأويل أقاويلهم عمدا أو عن غير عمد. ليس التلبيس في قول الفلاسفة بل في نسبة أقوال لهم ليست بأقوالهم. وذلك مثل ما حكاه عنهم في قولهم بالكثرة دون الوحدة، وبالتعدد دون المبدأ الأول وهو غير صحيح، فلا كثرة في العقول. (2)
إلى أي حد فهم الغزالي نص الفلاسفة إذا كانت الرواية صحيحة (الفهم)؟ فإذا كانت الرواية صحيحة يسيء الغزالي فهمها عن عمد لتشويه آراء الفلاسفة عن قصد. (3)
إلى أي حد توجد أخطار على الدين إذا فهم الغزالي نص الفلاسفة (الفعل)؟ وإذا كانت الرواية صحيحة والتأويل صحيحا يدعي الغزالي أن هناك خطرا على الدين من الفلسفة مما يتطلب مراجعة فهمه للدين إذا كان فهمه للفلسفة صحيحا.
صفحة غير معروفة