من النقل إلى الإبداع (المجلد الثاني التحول): (٣) التراكم: تنظير الموروث قبل تمثل الوافد - تنظير الموروث - الإبداع الخالص
تصانيف
والحقيقة أنه لا فرق بين «مناهج الأدلة» و«تهافت التهافت». فالنظرة الشرعية الفقهية متضمنة داخل الدفاع عن علوم الحكمة. عقول البشر قاصرة. لذلك سكت الشرع عن بعض الأمور وأكملها من عنده. لا يتعرض لها الجمهور بل الحكماء وحدهم. الشرع كالطب له غاية نفعية، وهو مقدار ما يحتاجه الجمهور لنيل سعادتهم في الأمور العملية مثل مقدار ما يحتاجه الطبيب للعلاج وليس للبحث النظري. لذلك نفت الظاهرية القياس في العمليات وهو أفضل من نفيه في الأمور النظرية وكما نبه عليها الشرع. ومن لم يكن من أهل البرهان عليه الإيمان بالشرع والكلام فيه حرام. وإن كان من أهل البرهان دون إيمان يمكن لأهل البرهان حجاجه. هذا هو موقف الشرع بل كل شريعة ، سكوت الشرع عما لا يجب على الجمهور الخوض فيه، ويحق ذلك لأهل البرهان وحدهم. فهل هذا هو الموقف الظاهري الذي كان سائدا بالأندلس أم أنه تعبير عن سطوة الفقهاء وسيطرتهم على الحياة العقلية؟
ويذكر ابن رشد ابن حزم في معرض الدلائل على النبوة. ويرفض نسبة بعض الصنائع إلى الجن أو الأنبياء كما زعم ابن حزم. فابن رشد أكثر عقلانية من ابن حزم. أحكام العقل عند ابن حزم جائزة ويمكن أن يخلق الله صفات مختلفة. كما يستشهد به في القول بأن الصابئة التي تقول بحشر الأجساد من أقدم الشرائع. ومع ذلك فابن حزم بشخصه ليس حاضرا بالقدر الكافي وإن كان حاضرا بظاهريته. وفي نفس الوقت يتحدث ابن رشد عن الظاهرية وأهل الظاهر في سياق شرعي خالص ويستعمل رأيهم في موضوع الطلاق لحظة إطلاق اللفظ دون انتظار الشرط كقياس لإثبات قدم العالم عند الفلاسفة بدليل عدم حدوث العالم مع الله بعد استشهاد الغزالي برأي الأشعرية في تأخير وقوع الطلاق لحين حدوث الشرط بعد إطلاق اللفظ.
86
فعلاقة الطلاق بشرطه احتمال عند أهل الظاهر وضرورة عند الأشاعرة مثل علاقة قدم العالم بدليل عدم حدوثه مع الله. فالبنية واحدة، أفعال الشرع أو أفعال الله. العلاقة بين الإنسان وفعله أو العلاقة بين الله وخلقه. والظاهرية كنفي للقياس قد تكون أسعد حظا في الأمور العملية عنها في الأمور العلمية.
وبالرغم من إدراك ابن رشد أهمية التأويل، والانتقال من الصور الفنية إلى دلالتها، ومن المعاني الحرفية إلى المعاني المجازية، اللوح المحفوظ هو العقل الفعال والعقول المفارقة أو النفوس التي تحرك الأفلاك هي الملائكة إلا أن هذا تأويل الحكماء وليس موقف الشرع الذي يتطلب الطاعة أكثر مما يتطلب البرهان. والحكماء أنفسهم لا يجوزون التكلم أو الجدل في مبادئ الشرائع إلا بأدب شديد. فكل صناعة لها مبادئ يتم التسليم بها دون التعرض لها بنفي أو إبطال. والصناعة العملية الشرعية كذلك تتطلب تمثل الإنسان الفضائل الشرعية من حيث هو إنسان عالم وتقليدها دون المناظرة فيها أو جحدها لأن المناظرة والجدال يبطلان وجود الإنسان لدرجة قتل الزنادقة. مبادئها إلهية تفوق العقول الإنسانية. يتم الاعتراف بها وإن جهلت أسبابها. لذلك لم يتكلم أحد من القدماء في المعجزات بالرغم من انتشارها وظهورها في العالم لأنها مبادئ تثبت الشرائع، والشرائع مبادئ الفضائل. ولا يتم الحديث فيها بعد الموت. فإذا نشأ الإنسان على الفضائل الشرعية كان فاضلا على الإطلاق. فإن استطاع التأويل لمبادئها فإنه لا يجب التصريح به للجمهور. والغريب هذا الموقف الفقهي الصرف لابن رشد وكأنه ابن حزم قبله وابن تيمية بعده. فكيف لا يجوز الكلام في مبادئ الشرع على الإطلاق؟ وإن كان الجدل معيبا منطقيا إلا أنه مفيد في الحوار وإثارة العقول. كيف يجوز التسليم بمبادئ الشرع ولا يتم التساؤل حولها والحكمة فيها بما في ذلك الأمور العملية؟ وكيف يجوز اتهام من يفعل ذلك بالزندقة وإجازة قتله؟ كيف يمكن تقليد الشرائع دون معرفة عللها وأسبابها، والعلة أساس علم الأصول؟ كيف تكون أمور إلهية وهي شرائع وضعية تقوم على رعاية مصالح الناس؟ كيف تفوق الأمور الشرعية العقول والعقل أساس النقل؟ وهل المعجزات أمور شرعية وقد تعرض هو نفسه لها؟ وهل الشرائع تقوم على المعجزات أم على أدلة باطنية، تطابقها مع حياة الناس وتلبيتها حاجاتهم؟ كيف يتفق ذلك كله مع عقلانية ابن رشد؟ صحيح أن الشرائع مبادئ الفضائل ولكنها وسائل والفضائل غايات. وعند الحكماء يمكن معرفة الغايات مباشرة أو بوسائل أخرى.
87
وقد وصف الشرع الله بالسميع والبصير تقريبا للجمهور، والمقصود العلم عند الحكماء، وبالتالي تصور المتكلمون الله باعتباره إنسانا أزليا. ومن ثم يكون الفلاسفة أكثر تنزيها منهم، بالإضافة إلى أن الفلسفة قول برهاني والكلام قول إقناعي. ويبحث الحكماء في أمور الشرع، والشرع متفق مع العقل من حيث المبدأ، ومن ثم يكون طريق المعرفة واحدا. فإن ظهرا مختلفين يؤول الحكماء الشرع ليتفق مع العقل ويصبح أيضا طريق المعرفة واحدا. لا خلاف إذن بين موقف المعتزلة وموقف الحكماء في منهج التأويل. وإن اعتراض الغزالي على الحكماء لا موضع له لأن الصوفية يقومون بالتأويل حتى يتفق الشرع مع الخبرة الصوفية الذاتية.
88
وقد أضاف الحكماء ما لم يتكلم فيه القدماء، باب النبوات والمعجزات. فقد تركها القدماء دون فحص. هي مبادئ الشرائع والباحث فيها معرض للعقوبة كمن يفحص المبادئ العامة التي تقوم عليها الشرائع مثل وجود الله والعمل بالفضائل والسعي نحو السعادة. ومع ذلك فقد جعلوا الوحي والرؤية من الله بتوسط موجود روحاني ليس بجسم، واهب العقل الإنساني. يسميه الحذاق منهم العقل الفعال، وفي الشريعة يسمى ملكا طبقا لعملية التشكل الكاذب. أما تصديق الخواص بالأنبياء فطريق آخر نبه عليه أبو حامد، وهي الصفة الصادرة عن النبي، الإعلام بالغيب ووضع الشرائع الحقة الموافقة للحق والمفيدة من الأعمال التي بها سعادة جميع الناس. فالمعجزات أدلة خارجية على النبوة وليست داخلية. وهي موضوع للعلم الطبيعي وليست موضوعا للشرائع مثل الصلاة والصيام. كانت موجودة في الماضي ولم تعد كذلك بعد استقلال الفكر وحرية الإرادة. ولا عقوبة على الفاحص فيها.
والقول بحشر الأجساد منتشر في كل الشرائع منذ أكثر من ألف عام، منذ عصر ابن رشد بداية من بني إسرائيل بعد موسى، وواضح في الزبور وفي كثير من صحفهم المنسوبة إليهم. وقد تواتر في أقوال عيسى في الإنجيل بالرغم من نفي الصديقيين ومجادلة المسيح لهم. وهو أيضا رأي الصابئة. وهي أقدم الشرائع، الدين الطبيعي القائم على التأمل في الكواكب. والحجة في ذلك سعادة الإنسان في الدنيا بالعمل وفي الآخرة بالنظر، وذلك لا يتأتى إلا بمعرفة الله سواء كانت حجة مقنعة أو غير مقنعة أم مقنعة في الدنيا دون الآخرة. كما أن الشرائع بمعنى الصنائع الضرورية للمدينة وإن اختلفت في صورها تتحدد في قصدها، وهو وجود حياة بعد الموت. وتقصد الشرائع تعليم الجمهور وتنبيه العلماء دون تأويل العامة. ومع ذلك يمثل الدين مرحلة أعلى من الفلسفة في تطور البشرية. فقد تنصر حكماء الروم ثم أسلم حكماء الإسكندرية. وشرائع الوحي والعقل أعلى من شرائع العقل وحده مثل شرائع اليونان والرومان أو شرائع الوحي وحده مثل الشرائع اليهودية والمسيحية. والعجيب أن ابن رشد يرى أن من ينكر الأجساد ويكون زنديقا يجب قتله! يستعمل ابن رشد تواتر الحقائق في تاريخ الأديان وما أصبح حكمه لكل الشعوب، إجماعا للبشرية كلها عبر التاريخ.
صفحة غير معروفة