من النقل إلى الإبداع (المجلد الثاني التحول): (٣) التراكم: تنظير الموروث قبل تمثل الوافد - تنظير الموروث - الإبداع الخالص
تصانيف
وهناك نوع أدبي جديد وضعه الطوسي وهو «التحرير» أي إعادة الكتابة للنص شاملا تمثل الوافد وتنظير الموروث معا . فهو تمثل للوافد لأنه إصلاح للعبارة المترجمة والانتقال بالترجمة من مستوى النقل إلى مستوى العقل، وهو في نفس الوقت تنظير للموروث لأن الباعث عليه سؤال من الداخل لمزيد من الإيضاح واعتمادا على الشروح الموروثة السابقة وتجاوزهما معا إلى الإبداع الخالص. وهو في نفس الوقت إبداع خالص لأنه لا يحيل في النص إلى وافد أو موروث بالرغم من أن العنوان يضم أسماء الوافد مثل أرشميدس أرسطخرس، أوطولوقوس، أيسقلاوس، مانالاوس أو الموروث مثل بني موسى، ثابت بن قرة الحراني، الصابئي.
47
مثال ذلك كتاب «مأخوذات لأرشميدس» ترجمة ثابت بن قرة وتفسير الأستاذ المختص أبي الحسن علي بن أحمد النسوي . وهي مقالة منسوبة لأرشميدس. يحال فيها إلى الموروث الشارح مثل «تزكية كتاب أرشميدس في المأخوذات» لأبي سهيل القوهي، ولكن الطوسي يتجاوز الوافد والموروث إلى بنية العقل الخالص. ويضع تقابلا بين «قال الأستاذ» و«أقول» ثم يلجأ إلى البرهان «برهانه».
وفي «كتاب الكرة والأسطوانة لأرشميدس» يعني تحرير الطوسي إعادة كتابة النص المترجم بطريقة التأليف وعلى مستوى عال من التجريد مع الاتجاه نحو الموضوع العلمي مباشرة بلا إضافات والعودة إلى النص الأصلي. التحرير إصلاح للترجمة وإضافة ما نقص منها، وإصلاح النسخ على عكس ترجمة إسحاق بن حنين الجيد، ويعتمد التحرير على الشراح السابقين يونان مثل أوطوقيوس أو مسلمين مثل العسقلاني. ثم ينتقل التحرير من الشكل إلى المضمون، ومن النص الموضوع بإعادة ترتيب أصوله حتى يكون الموضوع أكثر اتساقا مع المنطق ثم التحقق منه وإكمال ما نقص فيه من براهين. التحرير إذن إعادة ترتيب الأصول، وتلخيص المعاني، وبيان المصادرات، وشرح ما أشكل على الشراح، والتمييز بين النص والشرح، وإثبات الموضوع طبقا لرواياته المختلفة وإلحاق نصوص أخرى مثل مقالة لأرشميدس لأنها مفيدة في بيان بعض المصادرات.
48
وفي كتاب «في جرمي النيرين وبعدهما لأرسطوخس» يكتفي الطوسي بشرح اشتقاق اسم العلم أرسطوخس وأصله أرسطو ومعناه الصالح وأرخس ومعناه الرأس. وبعد التركيب أسقطت الألف والواو تخفيفا. فالإبداع هنا إيضاح حتى يصبح النص مفهوما حتى في اشتقاق أسماء الأعلام.
49
وقد يقتصر التحرير على مجرد إصلاح الترجمة القديمة مما يجعل التحرير أحيانا يبدو وكأنه مرحلة بعد الترجمة مباشرة وقبل التعليق لولا أنه عرض نظري خالص لا يعتمد إلا على طبيعة العقل وحده مما يجعله أيضا أقرب إلى الإبداع الخالص. مثال ذلك «كتاب الطلوع والغروب لاوطولوقس» الذي يهدف التحرير فيه فقط إلى إصلاح ترجمة ثابت.
50
وكذلك «كتاب في المطالع لايسقلاوس» يعني التحرير فيه مراجعة ما أصلح الكندي من نقل قسطا بن لوقا البعلبكي. فالنقل إذن ما هو إلا أولى المراحل نحو الإبداع الخالص. والتحرير مراجعة النقل والإصلاح والشرح حتى يتجاوز العبارة إلى الشيء، والنص إلى الموضوع.
صفحة غير معروفة