من النقل إلى الإبداع (المجلد الثاني التحول): (٢) التأليف: تمثل الوافد - تمثل الوافد قبل تنظير الموروث - تمثل الوافد بعد تنظير الموروث
تصانيف
كما يبدو من العنوان «تدبير المتوحد» غلبة الجانب الفردي الصوفي على الجانب الاجتماعي السياسي؛ فإذا ما قسم ابن باجه المجتمعات فإن العقل هو مقياس التقسيم، أو الآراء بمعنى الفارابي؛ فالمجتمع الذي يسوده العقل هو المدينة الفاضلة، والنبي خارجها، والفلسفة مصدر السعادة فيها، والفيلسوف، وليس النبي هو المحقق لها، على عكس الفارابي وابن سينا اللذين جعلا النبي الفيلسوف أو الفيلسوف النبي رئيسا للمدينة. ولا يتساءل ابن باجه عن الشريعة أي النظام الاجتماعي، وعن السياسة أي عن السلطة السياسية. والمجتمعات التي لا يسودها العقل مدن بسيطة؛ فالبساطة هنا بمعنى قدحي، وهي أربعة: مجتمع المال الذي ذكره الفارابي وأفلاطون من قبل، ومجتمع الجماعية أي الشيوع والقبلية، ومجتمع التغلب أي التسلط، ومجتمع الإمامية أي محبة التقدم وليس الكهنوتية، مجتمع رجال الدين.
ومع ذلك يظل السؤال: هل موضوع «تدبير المتوحد» السياسة أم الأخلاق، المجتمع أو الفرد؟ هل استطاع ابن باجه استئناف مشروع الفارابي الاجتماعي في المدينة الفاضلة، أم أنه استأنف مشروعه المعرفي دون الاجتماعي؟ عند الفارابي الإنسان مدني بالطبع، ولكن عند ابن باجه متوحد بالطبع؛ وبهذا المعنى ربما يدل «تدبير المتوحد» على عدم نجاح الفلاسفة في السياسة العملية وبعد نظرتهم عن الواقع. قد يكون تراجعا مأساويا يعبر عن هزيمة التصوف التأملي بعيدا عن الواقع، والبداية بالنفس بدلا من المجتمع، وبالفرد بدلا من الجماعة، عودا من «المدينة الفاضلة» إلى «تدبير المتوحد». ربما أراد ابن باجه القيام بخطوة إلى الوراء من أجل التقدم إلى الأمام، العودة إلى الفرد من أجل التوجه نحو الجماعة، حتى تصبح المدينة الفاضلة ممكنة التحقيق. التدبير خطة العاقل في المجتمع الذي لا يسوده العقل، وهي المجتمعات الأربعة الناقصة، والتي لا يدين المتوحد لأي منها كرد فعل على الفشل السياسي ومحنة الأندلس. المتوحدون مثل النوابت، لا ينسحبون من المعركة، ولكن لا يدخلون إليها قبل الأوان. التوحد إعداد الذات وتربية المواطن قبل تأهيل الجماعة وبناء الوطن. المتوحد هو «العاكف على شأنه، الخبير بأهل زمانه». ومع ذلك يعكس العنوان التوحد ضد التجمع، التوحد أولا والتجمع ثانيا. ويبدو أن قبول الواقع والبداية به جعله ينعكس على ذاته ويرتد إلى نفسه صوفيا إشراقيا كنوع من المقاومة السلبية على المجتمع؛ فالمتوحد يذهب إلى المدنية بعقله، وإلى التصديق بقلبه، لا يهرب بجسده، بل بروحه؛ ومن ثم تتم المصالحة بين العقل والقلب، بين الفلسفة والحياة.
43
ومع ذلك يظل «تدبير المتوحد» أقرب إلى الفرد منه إلى الجماعة. الباب الأول في العلم المدني منذ البداية، وفي الباب الثاني تتحول السياسة إلى النفس، ويظل السؤال قائما: ماذا يعني «تدبير المتوحد»؟ هل هو الإنسان الطبيعي الذي أفسده المجتمع فيترك المدن الجاهلة حرصا على نقائه؟
44
وفي هذه الحالة كيف يتم تحقيق المدينة الفاضلة في الواقع؟ (ب) وفي «رسالة الوداع» يتصدر تمثل الوافد على تنظير الموروث، ويتصدر أرسطو الوافد، ثم أفلاطون وسقراط. ومن أسماء الفرق المفسرون المشاءون. ويحال إلى نيقوماخيا، ثم إلى الأخلاق والحيوان وفادون (أفلاطون)، ثم إلى السماع والسياسة والنفس.
45
ويفصل ابن باجه ما تركه أرسطو مهملا في الحادية عشرة من «الأخلاق»؛ لأنه لا يوضح دائما ما يريد إبطاله. وفي نفس الوقت يبين ابن باجه مواطن التطويل والإطناب في أرسطو وأفلاطون؛ فمهمة التأليف إجمال المفصل، وتفصيل المجمل، ومعرفة وجه إبطال أرسطو للشيء. يدرس ابن باجه موضوعا ثم يتحقق من صدق قول أرسطو أو الاستشهاد به، تأكيدا للإجماع الحضاري أو إجماع العقلاء، كما هو الحال في علم الأصول. كما يستشهد بأرسطو في السادسة من نيقوماخيا على أفعال العقل التي توجهها الحكمة، وبهرمس نموذج الفاضل في جميع الفضائل الشكلية. كما يحيل إلى كتاب الحيوان ارتباطا بالتراث السابق، وتفاديا لتكرار القديم، مع استمرار ظهور بعض المصطلحات الأولى منذ عصر الكندي، مثل «القنية». ولا يستأنف ابن باجه تحليله لما فعله أفلاطون في السياسة، وفي محاورة «فادون». ويستشهد بسقراط وسبب قوله بتناسخ الأرواح في المحاورة، ويقرؤها إسلاميا. ويستشهد بنار هرقليطس (أبوقليطس) وضوئها على ذهاب السن وانقضاء العمر، وأن لكل أجل كتابا، فإذا جاء أجلهم لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون. ولا يهم إذا كان أبوقليطس هو هرقليطس؛ فليس المقصود هو التحقق التاريخي، بل المثل كحامل، وليس المهم المثل بل الممثول.
46
كما يشير إلى المفسرين دون تحديد الوافد أو الموروث، وهم أهل الاختصاص في علم النفس في موضوع حدوث صورة للنزوع الغريزي في الخيال.
صفحة غير معروفة