من النقل إلى الإبداع (المجلد الأول النقل): (١) التدوين: التاريخ – القراءة – الانتحال
تصانيف
وهناك صورة لعلوم الحكمة في كتب الفرق، فالحكماء فرقة، أتباع سقراط وأفلاطون وفيثاغورس وأرسطو ضمن الفرق غير الإسلامية، خاصة عند الشهرستاني في «الملل والنحل». وقد تم عرض هذه الصورة في التدوين تلافيا لنقص «من العقيدة إلى الثورة»، الذي لم يتعرض لهذه الصورة؛ نظرا لأنه في نسق العقائد وليس في تاريخ الفرق.
وهناك صورة معادية لعلوم الحكمة في كتب الفقهاء المعادين للمتكلمين والحكماء والصوفية وكل اجتهاد أو إبداع إنساني بدعوى ابتعادها عن الشرع وخروجها على العقيدة ورجمها بالظن، وخطرها على العامة، وضلال الخاصة منذ محنة أحمد بن حنبل في موضوع خلق القرآن، حتى «مصارعة الفلاسفة» للشهرستاني، و«اجتماع الجيوش الإسلامية» لابن القيم، ومجموع أعمال ابن تيمية في «منهاج السنة» و«موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول» و«الرد على المنطقيين» و«نقض المنطق» حتى فتاوى ابن الصلاح. وقد تساعد هذه الصورة على نحو سلبي على معرفة وضع هذه العلوم من منظور فقهي خالص الذي يرفض الوافد لصالح الموروث، ويرجح أساليب القرآن على منطق اليونان. ولم يتم استعمال هذه المصادر لأنها أدخل في الفكر الفقهي؛ فالفقهاء هم حراس المدينة، دورهم في التطهير ودق نواقيس الخطر وأجراس الإنذار من أجل العودة إلى النص الخام قبل أن يعمل الاجتهاد الإنساني فيه.
وهناك ثالثا صورة هذه العلوم في كتب التاريخ العام، الحوليات والطبقات مع الطبري وابن كثير وغيرهم، وكتب التاريخ الشامل مثل «مقدمة» ابن خلدون؛ فعلوم الحكمة في النهاية جزء من التاريخ، تاريخ العلم والعلماء على الأقل. وهي أدخل في علم التاريخ كأحد العلوم الإنسانية، وأبعد عن علوم الحكمة من داخلها أو من خارجها في تاريخ العلوم والحضارات العامة.
89
أما المنتحلات والنوادر وكل ما أبدعته الحضارة إبداعا موازيا للتاريخ، فإنه يدخل ضمن المنتحلات الدالة على قدرة الحضارة على فهم روح الوافد، ثم إنتاج نص يعبر عن روح واحدة تجمع بين الموروث والوافد. تستخدم الوافد لإعادة كتابة الموروث، وتستخدم الموروث لإعادة إكمال الوافد، وذلك مثل رسائل الإسكندر إلى أمه، ووصايا أم الإسكندر إلى ابنها، وكتاب التفاحة لأرسطو.
90
وبطبيعة الحال لا يمكن نظريا وعمليا تحليل كل النصوص؛ فلا يمكن لأي باحث الاطلاع على كل ما أنتجته علوم الحكمة من مطبوع ومخطوط، حتى ولو أمكن الحصول عليه بمزيد من الجهد والصبر والوقت. فالبحث العلمي له حدوده الزمنية والبشرية، وإلا لما أمكن إصدار حكم على أي شيء انتظارا لتوافر المادة العلمية الكاملة في كل ميدان بحثي، ولتوقف البحث العلمي إلى يوم الدين نظرا لما يكتشفه الباحثون في دهاليز المكتبات القديمة كل يوم من مخطوطات جديدة. بل إنه يستحيل البحث العلمي على الإطلاق نظرا لضياع جزء كبير من التراث القديم إلى غير رجعة. وما بقي منه لا يمثل في حالة علوم الحكمة إلا ثلثه. لم يبق إلا ما هو في الإمكان، ما هو متاح؛ فبعض المطبوع غير متاح بالنسبة لقدرات أي باحث لصعوبة الحصول عليه من خارج الأوطان في عصر أصبح فيه تبادل الكتب والمجلات العلمية أشبه بتناول المخدرات. وحتى في عصر إنشاء معاهد المخطوطات في المنظمات العربية والإقليمية. والبعض ما زال مخطوطا، مصوراته قد تكون متاحة والبعض غير متاح. والمنشور منها أكثر بكثير من غير المنشور، ويعطي مادة كافية للحكم على الفيلسوف أولا وعلى مجموع نصوص علوم الحكمة ثانيا. فأعمال الكندي والرازي والفارابي وابن سينا وابن باجة وابن طفيل وابن رشد المنشورة أكثر من الأعمال غير المنشورة إن وجدت. ولما كان المتاح المطبوع يعطي عينة ممثلة للمادة الأولى، فإن تحليله يكون ممثلا لتحليلات غير المتاح المطبوع أو المخطوط المفقود. وبالتالي يمكن إصدار أحكام عامة على التراث، علوم الحكمة نموذجا. الاستنتاجات العامة كاملة حتى ولو كانت مادة التحليل ناقصة. الروح مرئية في حين أن البدن قد تنقصه أحد الأعضاء. وهذا لا ينفي وجود الإنسان. وهو ما يسمى في المنطق بالاستقراء الناقص الذي يقوم عليه القانون العلمي دون الاستقراء التام الذي يستحيل تطبيقه إلا اعتمادا على مبدأ الاطراد في الطبيعة. ويسمى في علم أصول الفقه عند الشاطبي الاستقراء المعنوي، الذي يقوم على اطراد العلة في الفرع في حالة واحدة دون استقرائها في كل الحالات. لا يهم إذن غير المتاح من النصوص المطبوعة غير المتاحة أو المخطوطة أو المفقودة؛ فالمتاح فيه دلالة ومؤشر على غير المتاح، والحاضر يغني عن الغائب وإلا استحال الحكم انتظارا لعودة الغائب الذي قد لا يعود. يمكن إذن قياس الغائب على الشاهد. وما يشفع في ذلك أحيانا هو تكرار المادة المتاحة بحيث تتوقف أية مادة جديدة عن إضافة أية دلالة جديدة أو تغييرها أو تعديلها أو مناقضتها. بمجرد حصول الكيف تتوقف دلالة الكم، وبمجرد حصول المعنى يصبح تاما باكتمال المعنى وإن لم يكن تاما باكتمال الأمثلة. وماذا عن حريق مكتبة الإسكندرية وإغراق مكتبات بغداد، وما دمره الحريق أو العسكر، وما أتلفته غوائل الزمان؟ الروح لا تضيع، وإن ضاعت بعض أطراف البدن. حجة «الإنسان الطائر» عند ابن سينا و«أنا أفكر فأنا إذن موجود» عند ديكارت. والوعي التاريخي في النهاية مستقل عن الوثائق التاريخية، وإن كان محمولا فيها ومدونا عليها. إن عدم الاطلاع على كل النصوص حجة لا نهاية لها ولا حدود لها. فما ضاع ربما أكثر مما حفظ طبقا لما روته الأخبار عن حريق مكتبة الإسكندرية والكتب الملقاة في نهر دجلة كي تسير عليها الخيل، حتى تحولت مياه النهر إلى أحبار سوداء! ليس المهم اكتمال الوثائق، بل نوع العمليات الحضارية التي يمكن التعرف عليها بما تبقى من التراث القديم؛ فالمفهوم من المقروء عينة من المتاح المطبوع. والمتاح المطبوع عينات ممثلة للمطبوع كله. والمطبوع عينة ممثلة للمخطوطات المفقودة. والمخطوطات الموجودة عينات ممثلة للمخطوطات الضائعة والتي يمكن تحليل عناوينها لاكتشاف دلالاتها. وربما ما تم تأليفه، المطبوع والمخطوط والمفقود، ما هو إلا عينة ممثلة لمشاريع التأليف عند الحكماء التي لم تر النور. وكم من مشاريع الفكر ما زالت مطوية في أذهان أصحابها، ولها أكبر الدلالة على التحول من النقل إلى الإبداع. ولو انتظر الباحث استيفاء كل المادة لما صدر حكم عام، والأحكام العامة تتراءى من المستشرقين وغيرهم على الحضارة الإسلامية منذ قرنين من الزمان.
ولما كان أحد عيوب «من العقيدة إلى الثورة» الإكثار من النصوص القديمة أسفل الصفحات لدرجة قسمتها إلى نصفين، القراءة في النصف الأعلى والنص في النصف الأسفل، من أجل دعوة القارئ مشاركة الكاتب في حمل همومه وإدراك تصور القدماء ومدى بعده أو قربه من حاجات العصر، حتى يقدر الكاتب في غضبه من تراث السلطة ويفرح معه بتراث المعارضة، فإن استعمال النصوص القديمة في «من النقل إلى الإبداع» أصبح على نحو أقل تخفيفا على القراء، واكتفاء بالنصوص الدالة. وإذا كانت المحاولة الأولى لإعادة بناء علم أصول الدين قد وضعت النص الخام دون تحليل أو تفتيت أو هضم أو قضم حتى يسهل ابتلاعه، تكفي مشاركة القارئ الكاتب في «سد الزور»، و«ضيق الصدر»، والإحساس بالغم، بالإضافة إلى حمل هموم العصر، فإن هذه المحاولة الثانية «من النقل إلى الإبداع» لإعادة بناء علوم الحكمة، تقوم بتحليل النص وتفتيته والإجهاز عليه وعصره وترك الخارج منه، إلا إذا كان نصا دالا بأكمله مثل نص الكندي على الاعتراف بفضل القدماء في رسالته إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى أو نص ابن رشد عن اتفاق الحكمة والشريعة في «فصل المقال». وتتفق المحاولتان في الفصل بين أعلى الصفحة الذي يحتوي على التحليل الجديد وأسفل الصفحة الذي يضم الهوامش والشواهد والنتائج الإحصائية لتحليل مضمون النصوص.
91
أعلى الصفحة مخصص للروح وأسفل الصفحة مخصص للبدن حتى لا يتم كسر الخطاب وربطه افتعالا بنصوص قديمة. تعرض المطبخ بكل عبله دون أن تكتفي بتقديم الأطباق. كان من الممكن وضع نموذج ثالث، وتقسيم الصفحة ثلاثة أقسام: الأعلى يحتوي على تحليل بنيوي للموضوع وهو الزبد، والوسط يضم تحليلات النص والتي تجمع بين النتائج والمادة المحللة وهو الحليب المتبقي، والأسفل يضم النص الخام بعبله المستقى من المصادر الأولى، ماء الحليب، حتى ولو لم تكن محققة تحقيقا علميا حديثا مثل نصوص الجامعة العثمانية بحيدر أباد الدكن. ونظرا لعدم تعود القراء على هذا الأسلوب واحتمال تشتتهم بين ما يقرءون، وصعوبة الإخراج، وتضخيم الحجم، استبعد هذا النموذج الافتراضي من أجل الاكتفاء بالصفحة المزدوجة بين التحليل الجديد أعلاها والمادة المحللة أسفلها.
صفحة غير معروفة