من النقل إلى الإبداع (المجلد الأول النقل): (١) التدوين: التاريخ – القراءة – الانتحال
تصانيف
علوم الحكمة تالية على علم أصول الدين، كما أن علم أصول الدين سابق على علوم الحكمة في الزمان. نشأ علم أصول الدين أولا نشأة داخلية صرفة، ابتداء من أحداث محلية خالصة مثل الإمامة ومرتكب الكبيرة، واستمر الأمر كذلك على مدى قرنين من الزمان، في حين لم تنشأ علوم الحكمة إلا بعد عصر الترجمة، بعد دخول عنصر ثقافي جديد، هو الوافد، بالإضافة إلى الموروث القديم، فنشأ علم ثالث من حدث ثقافي يجمع بين الموروث والوافد. يطور الموروث ويعقله كي يتمثل الوافد. ويؤول الوافد ويوظفه للتعبير عن رؤية الموروث المتجددة. بدأ علم الكلام مبكرا منذ القرن الأول، واستمر إلى فترة متأخرة حتى القرن الثامن في علم الكلام الفلسفي عند الإيجي والتفتازاني والبيضاوي وأصحاب قواعد العقائد حتى «رسالة التوحيد» و«الحصون الحميدية». في حين بدأت علوم الحكمة متأخرة منذ القرن الثالث، وانتهت مبكرا في العالم السني حتى القرن السادس، ببارقة ابن رشد. واستمرت في إيران حتى القرنين التاسع والعشر عند صدر الدين الشيرازي وناصر خسرو. ولم يستطع السلطان عبد الحميد إحياءها بإعادة التحكيم بين الغزالي وابن رشد بين «تهافت الفلاسفة» و«تهافت التهافت».
26 (ل)
غلب علم أصول الدين على ثقافة المشرق دون المغرب، ربما لقرب المشرق من منطقة الديانات والمذاهب التي نشأ علم الكلام للرد عليها والدفاع عن الشبهات الآتية منها، في حين كان صقع المغرب بعيدا عن هذه المنطقة كما يعترف بذلك ابن رشد.
27
وبالرغم من جمع ابن حزم لأقوال المتكلمين في «الفصل» في إطار علم تاريخ الأديان المقارن، كان هناك عداء لعلم الكلام في المغرب على ما وضح في «الكشف عن مناهج الأدلة» لابن رشد. وربما كانت سيطرة الفقهاء في الأندلس على الحياة العقلية أحد أسباب غياب علم الكلام فيه. في حين شاعت الفلسفة في المغرب شيوعها في المشرق بالرغم من محنة ابن رشد. فظهر فلاسفة في المغرب كما ظهر فلاسفة في المشرق. ولا يعني ذلك وجود عقلية مشرقية صوفية إشراقية وعقلية مغربية عقلانية علمية؛ فقد ظهرت العقلانية والعلم في المشرق قدر ظهور التصوف والإشراق في المغرب. العقلية مفهوم أوروبي وافد، نشأ بدافع عنصري حضاري. إنما التيار الغالب مفهوم علمي ووصف تاريخي.
28
ثانيا: النقل والإبداع بين القدماء والمحدثين (1) نقل المحدثين
إذا كانت الغاية «من العقيدة إلى الثورة» هو التثوير ضد الاحتلال والقهر والتخلف، فإن الغاية «من النقل إلى الإبداع» هو القضاء على التغريب في عصرنا ضربا للمثل بنموذج القدماء، كيف تمثلوا الوافد ثم أعادوا إخراجه؟ كيف مارسوا النقل ثم قاموا بالإبداع؟ وإذا كان الهدف «من العقيدة إلى الثورة» هو القضاء على التحجر في الداخل، والتقوقع على الذات، وتحويل العقائد إلى أشياء ومقدسات، فإن الهدف من «النقل إلى الإبداع» هو القضاء على التبعية للخارج، وتقليد الآخر، وتحويل الثقافة الأجنبية إلى ثقافة عالمية، تعطي حقائق أكثر مما تعطي وقائع، ومصدرا للعلم بدلا من أن تكون موضوعا للعلم.
29
لذلك يأتي نقل المحدثين قبل إبداع القدماء نظرا لأن الأول هو الباعث على الثاني. هناك إذن علاقة في مشروع «التراث والتجديد» بين الجبهة الأولى «موقفنا من التراث القديم»، والجبهة الثانية «موقفنا من التراث الغربي». الأولى ترى الأنا من خلال الآخر، حين ترى الثانية الآخر من خلال الأنا. الأولى تجدد رؤية الأنا لذاتها من خلال ثقافة العصر، وهي في الغالب ثقافة الآخر. والثانية ترى الآخر العصري من خلال الأنا المتجدد عبر التاريخ ومن أجل رده إلى حدوده الطبيعية ، وإفساح المجال لتعدد الثقافات، ورد الاعتبار لثقافات الأطراف بعد أن كانت ثقافات المركز، وتحويل ثقافة المركز الحالية على الأمد الطويل إلى ثقافة الأطراف كما كانت عبر التاريخ. يمثل «من النقل إلى الإبداع» هذه العلاقة كنقطة التقاء بين الجبهتين؛ فهو دراسة لصلة الأنا بالآخر عند القدماء والعامل الموجه هو صلة الأنا بالآخر عند المحدثين؛ ومن ثم كان أقرب أجزاء الجبهة الأولى إلى الجبهة الثانية. «من النقل إلى الإبداع» لا يدرس كل علوم الحكمة في كل جوانبها المنطقية والطبيعية والإلهية والإنسانية، بل يدرس موضوعا واحدا فقط تبنى عليه علوم الحكمة كلها، وهو موضوع النقل والإبداع، الخيط الذي يربط أجزاء علوم الحكمة بناء على هم العصر وهاجس المحدثين. وهو هم حقيقي يقوم على افتراض الإبداع كما يقوم هم المستشرقين على افتراض النقل.
صفحة غير معروفة