من النقل إلى الإبداع (المجلد الأول النقل): (١) التدوين: التاريخ – القراءة – الانتحال
تصانيف
23
وكأن المؤرخ للفلسفة قد ترك وضعه إلى المتكلم الأشعري. ويرد على شبه اليونان، أبرقلس وأرسطو، بل وابن سينا في قدم العالم. فأكثرها مغالطات وتحكمات خصص لها الشهرستاني كتابا خاصا ينقضها على قوانين منطقية على نقيض تعصب أبرقلس وأنصاره الذين حاولوا إيجاد العذر له بأنه يناطق الناس بمنطقين؛ روحاني وجسماني. وكان من يحاورهم جسمانيين. فخرج على طريق الحكمة التي لا تعرف إلا طريقا واحدا وهو البرهان وليس الجدل الذي يدعو إلى التشتت، ويجد كل صاحب هوى فيه ما يريد.
24
أما الموروث فيتصدر ابن سينا على الإطلاق، فهو نموذج فلاسفة الإسلام والممثل لهم جميعا بالرغم من ذكر عشرين آخرين لا فرق بين رواة وفلاسفة، بين مترجمين وشراح، ولا فرق بين كبار الفلاسفة مثل الكندي والفارابي والعامري ومسكويه وصغارهم.
25
ويعتبرهم جميعا من المتأخرين. واليونان من المتقدمين، امتدادا لليونان عند المسلمين كما يدعي المستشرقون المحدثون في الغرب، وكأنهم لا أصالة لهم ولا دور حضاري لهم إلا تبعية اليونان. كلهم أتباع أرسطو إلا القليل الذي تابع أفلاطون مما يكشف عن نزعة عقلية واقعية عند المسلمين. رمزهم ابن سينا وزعيمهم الأول، يقتبس منه الشهرستاني عرضا للفلسفة، المنطق والإلهيات والطبيعيات؛ فابن سينا هو الفلسفة، والفلسفة هو ابن سينا.
26
وهو إجحاف بالفلاسفة إلا ابن سينا، إعطاء الفلاسفة أقل مما يستحقون، وإعطاء ابن سينا أكثر مما يستحق. ويشمل الموروث أيضا القرآن والأنبياء، شيث وإدريس وداود ولقمان. والنصارى جزء من تاريخ الإسلام.
27
ويقارن الشهرستاني فلاسفة اليونان بين بعضهم البعض؛ فالفلسفة اليونانية تمثل وحدة واحدة، كلا حضاريا واحدا، يختلف الفلاسفة فيما بينهم ويتفقون داخل الحضارة اليونانية قبل أن ينتشر الخلاف بين الفلاسفة خارجها عند الشراح، يونان ومسلمين. الفلسفة اليونانية تشرح بعضها البعض، لها مسارها الخاص، وبيئتها الخاصة، ترد إلى الداخل قبل أن تنتشر في الخارج. وهو ما فعله ابن رشد فيما بعد في شروحه على أرسطو بإرجاعه إلى تراثه اليوناني وجدل الفلسفة اليونانية من سقراط إلى أفلاطون إلى أرسطو، فلا يفهم الجزء إلا بوضعه في الكل الذي خرج هذا الجزء منه. ويبدو أن هناك تقسيما للعمل لا إرادي بين فلاسفة اليونان؛ إذ اقتصر سقراط من الفلسفة على الإلهيات والأخلاقيات دون التعرض للمنطق والطبيعيات كما سيفعل أرسطو فيما بعد، وبالتالي تكتمل دورة الفلسفة اليونانية بين سقراط الإنسان، وأفلاطون الإلهي، وأرسطو الطبيعي.
صفحة غير معروفة