من النقل إلى الإبداع (المجلد الأول النقل): (٣) الشرح: التفسير – التلخيص – الجوامع
تصانيف
هل كان ابن رشد على وعي بهذه الأنواع الثلاثة للشرح، وعي علمي مقصود عن منطق حضاري دقيق. أم أنها أتت وفق الشرح وتبعا لمقتضياته؟ ونظرا لوجود أنماط سابقة للشرح في علوم التفسير وفي علم أصول الفقه وفي الشروح السابقة والتعليقات على الترجمة، ربما كان عند ابن رشد وعي دقيق مسبق بهذه الأنواع الثلاثة.
5
الشروح والتلاخيص والجوامع نموذج للحوار بين الحضارات مع اعتزاز بحضارة الذات واحترام كامل لحضارة الآخر. تدل على فكر إنساني متفتح بحثا عن الحقيقة المشتركة التي يجاهد الجميع في معرفتها. تحيي التراث القديم، وتكمل جهود السابقين، وتواصل التراكم الحضاري. الشرح ليس مجرد تفسير ألفاظ بألفاظ، وتوضيح عبارات بعبارات أو ضم فقرات إلى فقرات بل هو موقف حضاري متكامل يستأنف عمل الترجمة. فالترجمة شرح صغير بدايات الشرح الكبير ومقدمة له.
كما تكشف عن قدرة على إيجاد المصطلحات الجديدة وتجاوز الترجمات الحرفية بل والمعنوية، وعن قدرة ثانية على الفهم والاستيعاب للوافد، وعن قدرة ثالثة لنقل النص اليوناني على البيئة الجديدة وإيجاد مناطق التعشيق بين الوافد والموروث، وقدرة رابعة على تطوير الموضوع كله استعدادا لمرحلة التأليف والإبداع. وإذا كانت هذه الأنواع الثلاثة ليست مجرد تصنيف كمي من حيث تفاوتها في الحجم بل هي تصنيف كيفي من حيث دلالتها على عمليات الإبداع الحضاري، فالسؤال: هل لها أي مصادر عند علماء المسلمين أم أنها أشكال نمطية فرضتها عمليات الإبداع الحضاري؟ ربما الشرح أقرب إلى تخريج المناط عند الأصوليين مجرد إبراز العلة من الأصل. والتلخيص أقرب إلى تنقيح المناط أي بلورة العلة وتوضيحها من الأصل. والجوامع أقرب إلى تحقيق المناط أي إيجاد العلة في الفرع من أجل تعدية الحكم. فهناك بنية أصولية وراء هذه الأنواع الأدبية الثلاثة صريحة أو ضمنية خاصة وأن ابن رشد هو الحكيم القاضي ، الفيلسوف الأصولي .
والشرح أكبر من حيث الكم لأنه تقطيع للنص، ومحاولة مضغه قطعة قطعة حتى يسهل ابتلاعه قبل أن يتمثله التلخيص وتخرج الجوامع فضالاته ويستبقي للتأليف عصارته، والشرح الأوسط أقل كما؛ لأنه خلص النص المترجم من شوائبه وأصبح أكثر تركيزا. والجوامع أقل كما؛ لأنها تتعامل مع القلب وليس الأطراف. الشرح أقرب إلى الطول؛ لأنه يتعامل مع الترجمة كلها من ألفها إلى يائها على الاتساع. والتلخيص أقرب إلى العرض؛ لأنه يتعامل مع الشرح الذي يتضمن قلب الترجمة والجوامع أقرب إلى الارتفاع نحو العمق؛ لأنها تتجه نحو الموضوع والقصد، وتستخرج اللب من القشور، وهو أكثر دلالة على الوافد من الجوامع والتلاخيص لأنه ما زال يتعامل مع الخارج لإحضاره إلى الداخل. يبدأ بالترجمة قبل أن يدخلها في عمليات التمثل الإخراج من أجل التأليف والإبداع. التلخيص أكثر دلالة على تعشيق الوافد في الموروث لأنه يدخل الخارج في الداخل، ويفسح أوسع مجال في الداخل لاستقبال الخارج. والجوامع أكثر دلالة على الإبداع الذاتي المستقل عن الوافد والموروث، الوليد الجديد بعد أن تم اللقاح. الشرح أقرب إلى المعارك الخارجية مع النص المترجم وشراحه، والتلخيص أقرب إلى المعارك الداخلية، كيفية التعشيق والاستيعاب وصب مضمون الوافد في قالب الموروث، والجوامع هو الكوب المملوء والمقدم للشاربين.
الشرح مملوء بأسماء الوافد أكثر من الموروث؛ لأنه ما زال يتعامل مع الخارج أكثر مما يتعامل مع الداخل. وفي التلخيص أسماء الموروث أكثر من أسماء الوافد لأنه يبحث عن أماكن التعشيق. والجوامع لا هذا ولا ذاك، لا بذور ولا تربة، بل زرع جديد في التأليف، وحصاد جديد في الإبداع.
ويصعب التمييز في الواقع بين هذه الأنواع الثلاثة خاصة وأنه لا توجد أمثلة واضحة من كل نوع. وقد يكون السبب في ذلك أنها متداخلة المهام، في كل منها تعميم وتخصيص، تحليل وتركيب، فك وإدغام، حذف وإضافة. ما يفعله الشرح مع الترجمة يفعله التلخيص مع الشرح وتفعله الجوامع مع التلخيص. (1) التاريخ والبنية
والخلاف ما زال قائما حول الترتيب الزماني للأنواع الثلاثة أيهما كان الأول وأيهما كان الأخير، والأوسط في كلتا الحالتين واحد. ربما كان الشرح الأكبر مثل «تفسير ما بعد الطبيعة» في الأول والتلخيص كان في الآخر إذ يتضمن الشرح الأكبر التفصيل والتفصيص والدراسة وعمل «الفيشات» بلغة العصر حتى يمكن فهم النص كما وكيفا. في حين يتطلب التلخيص وعيا بالكم دون الكيف، ومعرفة بالمضمون دون العبارة مما يتطلب تركيزا وجهدا وعمقا ونضجا، وهو ما لا يتأتى للإنسان إلا في أواخر العمر عندما يتخلى عن المادة العلمية ويصبح هو بديلا عنها. ولا يتحدث عنها إلا في البداية كفكرة عامة وذكريات ماضية. فهل كان لابن رشد مشاريع أخرى للشرح بعد هذه الأنواع الأدبية الثلاثة؟
6
لا يكفي أن تكون له الجوامع في البداية والشروح في النهاية لأن اقتناص الأشياء لا يكون إلا في النهاية بعد تحليل الألفاظ وإدراك المعاني.
صفحة غير معروفة