من النقل إلى الإبداع (المجلد الأول النقل): (٣) الشرح: التفسير – التلخيص – الجوامع
تصانيف
26
ويضرب ابن باجه المثل بأقوال أفلاطون التي توحي بقدم العالم مع أن أفلاطون لم يصرح بقدم العالم ولا بحدوثه لأنه يقول بتكون الزمان دون تحديد دقيق لذلك تقريبا لأفلاطون إلى الإسلام. كذلك يعلل ابن باجه لماذا قال أفلاطون بالتناسخ لأنه رأى النفس مفارقة مفارقة معنى؛ وبالتالي ضرورة وجود أنفس بلا نهاية بالفعل.
27
وينقد ابن باجه حجج «زينون» في نفي الحركة؛ إذ يخلط زينون بين القسمة بالقوة والقسمة بالفعل. فإن أجزاء الطول تنقسم بالقوة لا بالفعل، وينتهي زينون إلى إنكار الحركة، الحركة السرمدية المتصلة، ويقرنه ببارميندس. والحس يشهد بكذبه. وينقد أرسطو زينون في الإنصاف بحسب الأمر أي بدراسة الموضوع نفسه وليس مجرد بيان تهافت القول. فأصل القول في الشيء كما أن أصل الوحي في أسباب النزول.
28
ويعرض ابن باجه لنظرية أنبادقليس وحركة العالم بمبدأين فاعلين المحبة والعداوة، وراء وجود العالم وارتفاعه أو بلغة الدين، الخلق والبعث. ويكون من أوجه قصور العلم الطبيعي عدم تحوله إلى منطق أو إلى ما بعد الطبيعة. ويبين ابن باجه كيف أن الحركة الدائرية وحدها هي المتصلة والسرمدية كما تصور بطليموس وأبرخس وكأن الفلك على مركز القمر أو على مركز الشمس.
29
ويبدو الوعي التاريخي في استعمال ابن باجه ألفاظ الأقدمين والمتقدمين والأقدمين من الطبيعيين، والقدماء أو من تقدم أو ذكر أسماء المتفلسفين والمشائين والسوفسطائيين. ويتحد الوعي التاريخي لابن باجه بالوعي التاريخي لأرسطو. فمهمة كل واحد منهم في حضارته وفي الحضارة الإنسانية العامة الانتقال من الظن إلى اليقين، والتحول من الخطابة والجدل والسفسطة والشعر إلى البرهان. كما حاول الفارابي من قبل تصور هذه الأقاويل كتقدم في التاريخ وليست فقط كأنواع للأقاويل خارج التاريخ في المنطق الخالص، وابن باجه في النهاية تلميذ للفارابي، فتاريخ الفلسفة اليونانية هو هذا المسار الذي أدركه أرسطو والذي قمته المنطق. عرف القدماء الطبيعة دون منطق أي بلا برهان بل بأقاويل خطابية أو جدلية أو سفسطائية. فقد اختلف الأقدمون ممن تفلسف في الطبيعة وقالوا بآراء مخالفة للمشاهدة لقلة خبرتهم بالمنطق، ولكنهم ردوا الطبيعيات إلى المادة. فلا يحدث موجود من غير موجود بالرغم من أن الموجود ليس صنفا واحدا.
وقد تشكك المتقدمون في قول أرسطو حتى إن الإسكندر أفصح عن حيرته فيه، ومع ذلك حاولوا تبرير أرسطو مستكرهين القول. فلم يجدوا بدا من الإفصاح عن شكهم كيف الحكم بإطلاق على المتغير وهو ما سلم به أرسطو نفسه، إلا أن أرسطو يعنى بالمتغير ما ينقسم وما لا ينقسم لا يتغير، وهو المعنى الزائد على المعنى الأول. وقد سلم أرسطو في موضع آخر بالخاص؛ ومن ثم لا تناقض في النسق الأرسطي، ويعين ابن باجه نص أرسطو الذي قال فيه بالخاص. فيدفع الشك عن أرسطو ليس فقط دفعا لتهدئة سوء التأويل أو التعسف بل بالنص من أرسطو نفسه مثل القرآن وخلوه من التناقض. وتصبح المسألة أقرب إلى التعارض والتراجيح كما هو الحال في علم الأصول. وإذا كانوا يعبرون عن هذا الشك في كتبهم إلا أنهم لم يعرفوا حقهم في التشكك بحسب قول أرسطو، يدفع ابن باجه شك الخصوم إلى أقصى حد حتى يمكن دفعه بعد ذلك وتبرئة أرسطو كما يفعل القاضي الحصيف.
30
صفحة غير معروفة