من النقل إلى الإبداع (المجلد الأول النقل): (٣) الشرح: التفسير – التلخيص – الجوامع
تصانيف
وبالرغم من أن ابن رشد هو «الشارح الأعظم» إلا أن الشرح كان نوعا مبكرا عند الفارابي في «شرح رسالة زينون الكبير اليوناني». وهو زينون الرواقي وليس زينون السوفسطائي، جعله الفارابي تلميذ أرسطوطاليس والشيخ اليوناني في آن واحد مع أن الشيخ اليوناني وهو أفلوطين بعد أرسطو بسبعة قرون. فعلاقة الشيخ بالمريد خارج الزمان والتاريخ علاقة أبدية في الحكمة الخالدة. والسؤال هو: هل هذه الرسالة موجودة حقا أم إنها منتحلة؟ وبتحليل المضمون الإيماني لها فهي رسالة أشعرية في علم العقائد، أقرب إلى الانتحال. وإذا كانت موجودة فما هي صيغتها الأولى أي ذواتها التي قرأها الفارابي لتمثل الوافد في تصور الموروث؟ وإذا كانت موجودة بهذا المضمون الأشعري وهو ما يستحيل تاريخيا فقد اختارها الفارابي دون غيرها لأنها توافق تصوره الديني للعالم، وإذا كانت موجودة تاريخيا فلماذا لم يشرحها الآخرون؟ ويبين الفارابي سبب شرحها وهو أن النصارى قد شرحوها من قبل فحذفوا منها وأضافوا عليها. فأراد الفارابي أن يشرحها حقا كما هي عليه. فالفارابي على علم بأن الشرح ليس مطابقة الشارح بالمشروح بل قراءة وتأويل وحذف وإضافة ونقصان وزيادة، مما يسمح له بتجاوز المشروح كلية باستثناء الاسم، «زينون» ولقب «الكبير» وثقافته «اليوناني». لا تظهر أفعال القول إلا مرة واحدة في البداية، مجرد إعلان دون اقتباس نص كما هو الحال في «الجوامع» لأن ما يأتي بعد القول ليست أقوالا لزينون بل عرضا للعقائد الإسلامية على النسق الأشعري؛ الذات، والصفات، والأفعال، والنبوة، والمعاد، والإيمان والعمل دون الإمامة.
ويضع الفارابي شرحه في إطار مقارن بالعودة إلى أرسطو ثم أفلاطون ثم زينون ثم سقراط.
56
فزينون الكبير تلميذ أرسطاطاليس والشيخ اليوناني. وعمل الفارابي هو شرح نص طبقا لنوع أدبي خلقه الفارابي وسار عليه ابن عربي وهو «فصوص الحكم». فالحكمة فصوص متراصة ينتظمها كل واحد. ويذكر أرسطوطاليس وأفلاطون وسقراط باعتبارهم رواة في سلسلة متصلة كما هو الحال في السند في علم الحديث «عن معلمي أرسطاطاليس عن معلمه أفلاطون عن معلمه سقراط.» للدلالة على صحة المتن ودرءا للإبداع وتسترا عليه كما يفعل يوحنا في الإنجيل الرابع عندما يبدأ بالتاريخ المضبوط، الزمان والمكان والأسماء، لينتهي إلى ما بعد التاريخ أي إلى الإبداع الخالص أي الانتحال، كل تلميذ يروي عن أستاذه ويستفيد منه.
وتتضمن الرسالة ستة أقسام؛ الأول في الدلالة على وجود المبدأ الأول، والثاني في الكلام في صفاته، والثالث في نسبة الأشياء إليه، والرابع الكلام في النبوة، والخامس في الشرع، والسادس في المعاد. فإذا كانت عقائد الأشاعرة ثمانية؛ أربعة في العقليات أو الإلهيات، الذات والصفات، والأفعال (الكسب، والعقل، والنقل)، وأربعة في السمعيات: النبوة، والمعاد، والإيمان والعمل، والإمامة يكون الفارابي وهو حديث عهد بالكلام قبل أن يتحول إلى فلسفة خالصة، وقد كان الكندي متكلما فيلسوفا، معتزليا حكيما، قد حول النسق الأشعري، والفارابي معاصر له، إلى علوم الحكمة مع تغيير في الترتيب، جاعلا المعاد في النهاية طبقا لترتيب الحكمة والنهاية بخلود النفس، ومسقطا الإمامة التي تحولت عنده إلى فلسفته السياسية في المدينة الفاضلة.
ويستدل الفارابي على وجود المبدأ الأول عن طريق الثنائيات العقلية اليونانية التي تسهل تنظيم الإيمان وتعقيله، الواجب والممكن، والكون والفساد، والعلة والمعلول، والماهية والوجود. ويستدل على صفاته مثل أنه واحد، ولا يجوز أن يكون جسما وسطحا وخطا ونقطة، لا يقتضي التكثر، عقل وعاقل ومعقول، حي، عالم، حكيم، مريد، ليس فيه ضدية للأشياء. وهنا يبدو اللاهوت السلبي مع الإيجابي، كما تتخلق صفات الذات عند الحكماء من صفاتها عند المتكلمين. ويظهر دليل التمانع المشهور عند الأشاعرة في إثبات أنه واحد.
والثالث «نسبة الأشياء إليه» يتعلق بالمخلوقات أو بالأحرى نظرية الفيض؛ إذ لا يصدر عنه إلا ما يلائمه. كمال لا نقص فيه. تصدر منه العقول ومنها تصدر النفوس مع الانتهاء إلى العقل الفعال. وتبدأ النبوة بالنفس القدسية التي تفيض عليها العلوم والمعارف مرة واحدة دون قياس شرعي. ثم يعرض النبي الشرائع وأركان الدين والعبادات لحفظ العالم. وأخيرا تعود النفس لتلقى الجزاء؛ الثواب أو العقاب. ولا يظهر لفظ الله إلا في النهاية. فالعلم كنز مدفون لا يفوز به إلا من سهل الله طريقه إليه.
ثالثا: تفسير كتاب إيساغوجي لفرفوريوس (أبو الفرج بن الطيب)
وقد نسب هذا التفسير مدة طويلة إلى الفارابي، صاحبه أبو الفرج بن الطيب الطبيب المشهور (435ه) وربما من إملائه وليس من تأليفه. مدحه ابن سينا في الطب وذمه في الحكمة وهو معاصر له. وهو المفسر الشارح مثل ابن رشد.
1
صفحة غير معروفة