من النقل إلى الإبداع (المجلد الأول النقل): (٣) الشرح: التفسير – التلخيص – الجوامع
تصانيف
131
ويحال إلى باري أرميناس والجدل والسفسطة على التساوي، مرة واحدة لكل منهما. يحال إلى العبارة لأن المقول وكل قول مكون من أجزاء، جزء الكلية، وجزء الحد، وجزء الشيء. ويحال إلى الجدل لمعرفة إذا كان الوجود في عبارة: الشيء موجود؛ داخلا في مطالب العرض إذا كان المقصود الصادق أو العرض إذا كان المقصود الجنس. ويحال إلى سوفسطيقي للتواضع المشترك بين أرسطو وابن رشد واعتذار كل منهما عن التقصير؛ وذلك لأنهما أول من بدآ هذا العمل ولم يجدا أحدا قد سبقهما فيه. فلهما الحمد والثناء في الأول والآخر. هناك إحساس بالإبداع بالرغم من العذر بالتقصير والشكر للإنجاز، ولا توجد إحالات إلى الشعر أو الخطابة مع أن الميتافيزيقا أقوال شعرية تعبر عن مواقف جمالية، وتستعمل الصور الفنية للتأثير على النفس بالإضافة إلى إخضاعها للتحليلات اللغوية في منطق البرهان.
132
ويحيل ابن رشد إلى عدة مؤلفات أخرى كل منها مرة واحدة مثل «ما بعد الطبيعة» لنقلاوش المشائي في كمال الإنسان بهذا العلم الذي به يشارك أفضل الموجودات، وكتاب إقليدس لأن أفلاطون كان يعتقد أن الأسطقسات الأربعة مركبة من سطوح متساوية الأضلاع والزوايا وهي الأجسام الخمسة المذكورة في آخر الكتاب. فابن رشد يشرح أرسطو بأفلاطون وأفلاطون بإقليدس في سياق تاريخي واحد، الفلسفة اليونانية، وكتاب الاقتصاص لبطليموس في موضوع حركة الأفلاك والحركة اللولبية التي كان يضعها أرسطو، ومحاورة «فيدون» في قول أفلاطون إن الأنواع سبب الوجود والكون، و«تلخيص مقالة اللام» وكتاب «النفس» لثامسطيوس في موضوع تكون الموجودات من غير بذر في مقالة اللام وجميع الصور والمعقولة في النفس، وفي موضوع نشأة النفس مقارنة بأفلاطون وأرسطو، وكتاب المنطق دون تحديد لأرسطو لأنه صاحب المنطق أو للفارابي لأنه هو الذي هذب المنطق أو ابن سينا لأنه هو الذي نسق المنطق أو لابن رشد لأنه شارح المنطق في التلاخيص والجوامع، والموضوع القضايا المعرفية هل هي موجبة أم سالبة، صادقة أم كاذبة. وأخيرا يحيل ابن رشد إلى نفسه، إلى مقالة في «الرد على جالينوس» في عدم وجود المزاج المعتدل في الأطراف المتضادة وإلا لأمكن أن يوجد من الأطراف دون أن يلحقه تغير أو نقص. فعمل ابن رشد له نسقه الموحد سواء كان شرحا أم تأليفا، وافدا أو موروثا، فلسفة أم طبا أم فقها.
133 (3) الموروث
ويتضح الموروث الفلسفي واللغوي والكلامي في تفسير ابن رشد. وهو الوعاء الذي يستقبل الوافد. وهو بطبيعة الحال أقل كما من الوافد. يأتي ابن سينا في المقدمة ثم الفارابي من الفلاسفة ثم المتكلمون والكلام وعلم الأشعرية من المتكلمين، ثم الشريعة والعرب وآية قرآنية وحدة، وأخيرا الصابئة وبنو إسرائيل. وعلى التخصيص، يأتي ابن سينا في المقدمة في الألف الصغرى والجيم والباء والزاي واللام. ولم يذكر الغزالي مرة واحدة، ولكن ذكر ابن سينا أكثر من أرسطو، والعرب أكثر من اليونانيين، وظهور أربعة أماكن محلية، وثلاث آيات قرآنية. ومن الطبيعي أن يشار إلى ابن سينا فهو المسئول عن سوء تأويل أرسطو مثل ثامسطيوس من شراح اليونان بسبب خلطهما بين أرسطو وأفلوطين، وتحويلهم الفلسفة العقلية الطبيعية لأرسطو إلى فلسفة إشراقية مع الفارابي. ثم يأتي علم الأشعرية والأشاعرة بعد ذلك والكلام والمتكلمون بعد أن تحولت الأشعرية إلى نسق عقائدي فلسفي، والكلام إلى رؤية وبنية تشخيصية شعبية للعالم. ثم يظهر لسان العرب والعرب واللغة العربية والبيئية المحلية المخالفة للبيئة اليونانية. كما يظهر مصدر الحضارة الأول القرآن كإطار مرجعي يعطي التصور للعالم.
134
ويبدع ابن رشد في تركيبه الوافد على الموروث وفي استعماله الوافد لنقد الموروث؛ وبالتالي يحقق التفسير هدفين؛ الأول: تخليص نص الوافد مما علق به من سوء تأويل الشراح اليونان والمسلمين، والثاني: استعماله لنقد الموروث الداخلي من سوء تأويل المتكلمين. الهجوم الرئيسي من أجل تخليص الوافد من التأويل الأفلاطوني (ثامسطيوس) الإشراقي (ابن سينا) لأرسطو ومن علم الكلام والمتكلمين عامة والأشعرية خاصة ضد سوء استخدام العقل في فهم العقيدة، وهو نفس ما فعله في «تهافت التهافت» دفاعا عن الفلسفة ضد الغزالي والهجوم على ابن سينا، وما فعله في «مناهج الأدلة» في تخليص العقيدة من سوء تأويل الأشعرية حتى يظهر اتفاق الحكمة والشريعة في «فصل المقال»، الموروث والوافد حتى تجف هذه القنوات المتصلة التي يغذي بعضها بعضا، إخوان الصفا والتصوف وابن سينا والأشعري والغزالي. أراد ابن سينا «أرسطنة» الكلام و«أشعرة» أرسطو في حين يريد ابن رشد رفع علم الكلام إلى مستوى أرسطو؛ فالكلام هو الذي يتحرك ليلحق بالحقيقة التي أعلنها أرسطو. وينسى ابن رشد أن الموضوع هو شرح أرسطو وتفسير كتاب «ما بعد الطبيعة»، ويدخل في حجاج مع ابن سينا وكأنه في «تهافت التهافت»، وتنعدم المسافة بين الشروح والمؤلفات. ولا يشير إلى مؤلفات ابن سينا بالرغم من كثرة الإحالة إليه ربما لأنها غير جديرة بذلك في حين يشير إلى مؤلفات الفارابي «الجمع» و«الموجودات المتغيرة» بالرغم من قلة الإحالة إليه. (أ) ابن سينا
لقد أخطأ ابن سينا في اعتبار أن موضوعات العلم الطبيعي يتم البرهنة عليها من علم ما بعد الطبيعة؛ وبالتالي يكون علم ما بعد الطبيعة هو أساس العلم الطبيعي مع أن العكس هو الصحيح، صحيح أن كل علم لا يبرهن على مبادئه إلا من علم آخر. ويكون ذلك بإرجاع علم ما بعد الطبيعة إما إلى المنطق أو إلى الطبيعة وليس العكس. فمبادئ الجوهر المحسوس أزليا أو غير أزلي يبرهن عليه في علم الطبيعة وليس في ما بعد الطبيعة كما يظن ابن سينا. ولا يحتاج العلم الطبيعي أن يبرهن على وجود الطبيعة من العلم الإلهي. فهناك فرق بين الجوهر في العلم الطبيعي والجوهر في علم ما بعد الطبيعة. يهدف ابن رشد إذن إلى فك الارتباط بين العلمين واستقلال علم الطبيعة عن علم بعد الطبيعة، والقضاء على إشراقيات ابن سينا، وفك الارتباط بين الله والعالم، ورفع الخلط بينهما حتى لا يصبح الله مشبها والعالم إلها بل يتم الحفاظ على التنزيه وفي نفس الوقت تأسيس العلم. خلط ابن سينا بين العلمين بسبب تبعيته للإسكندر مع أنهما علمان مختلفان بالجهة لا بالوجود، مع أن الإسكندر كابن رشد كان يحيل موضوعات علم ما بعد الطبيعة إلى علم الطبيعة مثل المادة في حين يرى ابن سينا أن حل مشكلة المادة في علم ما بعد الطبيعة محيلا موضوعات علم الطبيعة إلى علم ما بعد الطبيعة، ومضحيا بالعالم في سبيل الله. فلا هو حافظ على العالم ولا هو قدر الله حق قدره.
135
صفحة غير معروفة