من النقل إلى الإبداع (المجلد الأول النقل): (٢) النص: الترجمة – المصطلح – التعليق
تصانيف
وما دام المنطق أشكالا هندسية فما أسهل اللعب بها كالمكعبات للأطفال! وهذا هو سبب الإسهاب والتطويل والحاجة إلى التركيز والاختصار، والتحول من مستوى الشكل إلى مستوى اللغة؛ فما ظنه المناطقة أنه أشكال قياس بتبادل الأوضاع بين المحمول والموضوع، قد يكون مجرد تقديم أو تأخير في اللغة؛ لذلك نشأ الصراع بين المناطقة والنحويين؛ كل فريق يرى أن موضوع الفكر داخل في علمه بالرغم من مشاركتهما معا في نفس الموضوعات،
17
فإذا ما بالغ المناطقة في تحليل القضية وعكسها وقواعد القلب والعكس، والتضاد بين الكل والجزء والسالب والموجب، يجعل المضمون يثور ضد الشكل فيثور الفقهاء ضد الحكماء، ويرجحون أساليب القرآن على منطق اليونان. هل التعامل مع الأغنياء والفلاحين يكون بأشكال القياس وأسوار القضايا والنفي والإيجاب أم بالصراع الاجتماعي؟ وقد حاول الحكماء أن يقوموا بدور الوساطة بين المترجمين والفقهاء من أجل تحويل المنطق إلى لغة، كما حاول الكندي والفارابي، تحويل أدوات النفي من أسوار للقضايا إلى نحو، والضد في النفي إلى تغيير الألفاظ. وإذا دخل الزمان في التحليل «تقابل المستقبلات الممكنة»، يكون على نحو صوري، مع إغفال زمان اللغة وزمان الفعل والزمان التاريخي.
18
ومع ذلك يظل كتاب القياس والبرهان خاصة يثيران الذهن الذي يضجر من الصورة بلا مضمون، ومن كون الصدق والكذب في أشكال القضايا، وليس في إحالتها إلى مادة في الذهن أو النفس أو الواقع. وإذا كان القياس مقدمة للبرهان وليس أصلا مستقلا فلأن الغاية هو العلم البرهاني، وهو ما يتفق مع الحضارة الحيوية، القائمة على طلب البرهان. ومع ذلك تظل للمنطق ميزة أنه يمكن تطبيقه في أي موضوع. وقد استفاد منه القدماء خير استفادة، واستطاعوا تجاوز ازدواجية الثقافة بتركيب المنطق على النحو، وازدهرت الحضارة الإسلامية كنظرية في العقل طبقا لروح العصر القديم. والسؤال الآن: كيف يمكن التحول من روح العصر القديم إلى روح العصر الجديد، وتجاوز ازدواجية الثقافة المعاصرة بين المنطق القديم والمنطق الجديد، بين الشكل والمضمون، بين الجوهر والعلاقة، بين الثبات والحركة، بين الهوية والتناقض، بين الفكر والواقع؟ (2) الترجمة قراءة
وليست الترجمة حرفا بحرف، ولفظا بلفظ وعبارة بعبارة، بل قد تكون تلخيصا وشرحا عن عمل المترجم نفسه؛ فالمترجم ملخص وشارح ومعلق، وهي العناصر الأولى في التأليف، وهي الترجمة المعنوية الكلية للعمل برمته، ولبس لبعض العبارات أو الفقرات. قام المترجم نفسه بالتلخيص والشرح، بالحذف والإضافة، قبل أن يقوم بهما الفيلسوف في عملية متصلة تبدأ بالنقل وتنتهي بالإبداع.
وهذا هو ما تم في ترجمة كتاب «الشعر» الذي يصعب فيه معرفة الفرق بين الترجمة والتلخيص والشرح والعرض والتأليف؛ فكلها مراحل متتالية لعملية التمثل والاحتواء للوافد داخل الموروث. وينبه المترجم على ذلك بعدة عبارات التذكير والربط، مبينا أنه يتعامل مع الموضوع أكثر مما يتعامل مع النص، مع المعنى أكثر مما يتعامل مع اللفظ؛
19
فالمترجم يعود إلى الموضوع ويراجعه، ويغير أمثلته ويستبدل بها أمثلة أخرى أكثر تعبيرا عن المعنى؛ لتقريب المعنى الذي يقصده المؤلف الأول، أرسطو اليوناني إلى القارئ الثاني العربي؛ فالمترجم هنا قارئ عربي أول ومؤلف ثان. ولم يحدث ذلك في الترجمات العربية القديمة وحدها، بل حدث أيضا في الترجمات اللاتينية للنصوص اليونانية ولترجماتها العربية وشروحها وملخصاتها، مع استحسان الدارسين لذلك لدلالته على أن كل ترجمته إبداع من اللاتين المترجمين لليونان وللعرب في معيار مزدوج. استعمال المطابقة كمقياس للترجمة العربية والقراءة كما قياس للترجمة اللاتينية.
ولا يجوز للناشر الحديث أن يحذف الزائد أو أن يضيف الناقص، وكأن النص اليوناني هو الأصل، والنص العربي هو الفرع الذي يقاس على الأصل، طبقا لنظرية المطابقة تحت أثر النزعة التاريخية التي سادت الاستشراق في القرن الماضي؛
صفحة غير معروفة