وهذا كله لون من ألوان الفرض يستطيع الخيال أن يذهب فيه إلى غير هذا، ولكنه لا يسمى علما إلا يوم تقدم الأدلة الواضحة على أنه حق لا شك فيه.
وإذن فكل هذه القصة الطريفة التي صورها الأستاذ الصديق لحرب طروادة ووصلها بعنق الدولة التي تسمى الدردانيل إنما هي قصة أدبية قوامها الخيال الخصب القوي، لا علمية قوامها البحث الدقيق.
وإذا كان الأمر كذلك فإني أستأذن الصديق في أن أرى القصة اليونانية القديمة أقوى وأبلغ وأشد تأثيرا في النفس واستهواء للقلب من هذه القصة الحديثة. وأستأذن الأستاذ في أن أجد لذة وراحة حين أقرأ أن بوسيدون إله البحر هو الذي أقام هذه المدينة العظيمة، وأن ملكها بريام كان رجلا عظيما ضخم الملك واسع السلطان له خمسون من الولد، وأن أحد أبنائه باريس كان شرا عليه وعلى ملكه. كان جميلا رائع الجمال، وقد تنبأ المتنبئون يوم مولده بأنه سيجلب على المدينة شرا عظيما، فأمر أبوه بطرحه في مكان بعيد يدركه فيه الهلاك، ولكن الآلهة احتفظوا به لأمر دبروه فشب الفتى رائعا بارع الجمال، واحتكمت إليه ثلاث من الآلهة أيهن أجمل، فقضى لأفروديت على هيرا وأتينا، فكان هذا أول الشر. ثم اختطف هذا الشاب هيلانة من قصر زوجها إسبرتا، فكان هذا مصدر الحرب، ثم دمرت المدينة وردت هيلانة إلى قصرها فكان هذا ينبوع الشعر.
أستأذن الصديق في أن أوثر هذه القصة الخصبة التي نفعت الإنسانية وما زالت تنفعها بما أثارت من شعر قصصي وغنائي وتمثيلي، وبما أثارت من فن جميل خالد وبما لا تزال تثير الآن في الأدب والفن من آثار قوية ممتعة كثير منها سيتاح له الخلود فيما يظهر. ولست أدري هل علم الأستاذ الصديق أن قصة هيلانة تشغل الباريسيين منذ أشهر الآن؛ لأن كاتبا فرنسيا بارعا هو جيرودو قد وضع فيها قصة تمثيلية رائعة عنوانها «لن تكون حرب طروادة»، وهو قد اتخذ من أسطورة هيلانة صورة فنية من أروع الصور لما تضطرب فيه أوروبا الآن من أسباب الخلاف والخصومة التي تدعو إلى الشر والفساد.
أما بعد، فإني أريد أن أتفق مع الأستاذ الصديق على أن أقبل تفسيره العلمي لحرب طروادة يوم تنهض به أدلة العلم التي لا تقبل الشك، وعلى أن يقبل هو قصة هيلانة الأدبية كما تصورها الأدباء وأصحاب الفن، وقد يخيل إلي أن هذا الاتفاق لا يؤذي أحدا، وقد يخيل إلي أن الأدب أرحب صدرا من العلم؛ لأنه يحتمل كثيرا جدا من لعب الخيال، بل هو يقوم على لعب الخيال. فأما العلم فحاجته إلى الخيال محدودة بالمرحلة الأولى، فإذا تجاوزها ضيق على نفسه وعلى الناس والتزم حدودا وقيودا ومناهج لم يلتزمها الأستاذ الصديق حين وقف على أطلال طروادة. أما أنا فإني أستطيع أن أقف على هذه الأطلال، وأنا أقف عليها في كل يوم حرا طليقا فأستمتع بلذات لا تقدر، منها الحزين المكتئب، ومنها الجميل المبتهج، ومصدر ذلك أني لا أحفل بأعناق الدول ولا أبحث عنها، وإنما أوثر عليها جيد هيلانة الحسناء.
الخيال العاقل
تحية صديق مشارك في الحزن آمل في العزاء
إلى أخي الزيات
أعرفت قط خيالا عاقلا أيها الأخ العزيز؟ أما أنا فقد عرفته أمس، ولم أتكلف في معرفته مشقة ولا جهدا، ولم أنفق في البحث عنه قوة ولا وقتا، بل لم أبحث عنه وإنما سعى إلي، أو قل هممت أن أدعوه فاستجاب لي قبل الدعاء، ولكني لم أدعه لأعرفه، فإن عهدي به بعيد، بعيد جدا لا أكاد أذكر أوله، وإنما أعلم أنه رفيقي منذ بدأت أفكر، بل منذ استقبلت الحياة، ما أكثر ما زين لي الأشياء حتى كلفت بها ورغبت فيها! وما أكثر ما بغض إلي الأشياء حتى نفرت منها وضقت بها! وما أسرع ما اخترع لي أشياء لم أكن أعرفها ولا أقدرها! فإذا هي تملأ قلبي أملا ورجاء، وتدفعني إلى العمل والنشاط، وإذا هي تملأ قلبي يأسا وقنوطا، وتدفعني إلى الفتور والخمود والانزواء.
لقد خلق لي عالما كاملا بعيد الآماد، متنائي الأرجاء مختلف الألوان، قضيت فيه أيام الصبا، وما أكثر ما تمنيت أن أعود إليه! ثم خلق لي عالما آخر ليس أقل من ذلك العالم سعة وتنوعا واختلافا، ولكنه مزاج من الجمال والقبح، ومن اللذة والألم، ومن اليأس والأمل، قضيت فيه أيام الشباب، وما زلت أتمنى أن أعود إليه، ثم هو يرافقني الآن فيزين لي الحياة قليلا ويقبحها في نفسي كثيرا، ويحاول أن يخلق لي ما يسر، ويحاول أن يخلق لي ما يسوء، فأطيعه حينا وأعصيه أحيانا، ولكنه وفي لي دائما كلما أردت استعانته على الكتابة والإنشاء. وأعترف أيها الأخ العزيز بأني كنت مقتصدا أشد الاقتصاد في الالتجاء إليه والاستعانة به؛ لأني أعرفه جريئا مسرفا في الجراءة، نشيطا غاليا في النشاط، يخترع من الصور وفنون المعاني ما لا أطيق أن أعرضه على بيئاتنا الاجتماعية التي تقتصد في الاطمئنان إلى وحي الخيال.
صفحة غير معروفة