ينتف عثنونه من الهوس
ثم انصرفنا عنه راجعين وتركناه يغلي كالمرجل. ولكن الله الذي فتح على الزيات فألهمه وصف الحالة الحاضرة لم يفتح علي ولم يلهمني وصف مصر في الصباح؛ ذلك أن الزيات راغ وزاغ وعدل عما كان يراد منه من وصف تلك الحالة الحاضرة قبل نيف وعشرين سنة إلى وصف هذه الحالة الحاضرة التي نبغضها أشد البغض ونضيق بها أعظم الضيق. وأي الكتاب لا يقدر أن يجيد في هذا الوصف ويأتي فيه بالأعاجيب؟ ومن يدري؟ لعلي أحسن إذا ذهبت إلى صديقنا الثالث فألقيت في روعه أن الزيات قد ذكر اسمه القديم فراغ وزاغ، ووصف ما لم يكن يراد على وصفه. وإذن فهو ما زال عاجزا كصاحبيه، وإذن فما زلنا ننتظر من يصف الحالة الحاضرة ويصور مصر في الصباح.
أما أنا فلم أشك في أن مصر في الصباح موضوع خطير لا بد من الكتابة فيه، ولكن أي مصر؟ أهي مصري أنا أم مصر الزيات أم مصر صديقنا محمود؟ فقد كانت لنا أمصار ثلاثة مختلفة فيما بيننا اختلافا غير قليل. كانت مصري أنا تبتدئ في ربع من ربوع حوش عطى، وتنتهي إلى الأزهر الشريف مارة بمشهد الحسين والحلوجي بعد أن يقطع السالك إلى هذا المشهد الكريم إحدى طريقين: حارة الوطاويط، أو شارع خان جعفر.
وأما مصر محمود فكانت تبتدئ في الظاهر في حارة ضيقة قريبة من بيت الشيخ الإنبابي - رحمه الله - وتنتهي إلى الأزهر الشريف مارة بما شئت من الطرق التي تستقيم إن أردت لها أن تستقيم، وتلتوي إن أحببت لها الالتواء.
وأما مصر الزيات فكانت تبتدئ في حارة ضيقة على قلعة الكبش، ثم تنحدر إلى شارع لا أذكر اسمه، ولكنه ينتهي إلى مسجد السيدة زينب، ثم تصل بعد ذلك إلى الأزهر من طرق تستطيع أن تستقيم وتستطيع أن تلتوي، تستطيع أن تقصر، وتستطيع أن تطول. فأي هذه الأمصار الثلاث أصف؟ وعن أي هذه الأمصار الثلاث أتحدث؟ فأما مصري أنا فقد كانت حلوة لذيذة في الصباح، ولكنها لم تكن تعجب الزيات، ولم تكن تلذ لمحمود. كان يوقظني فيها مع الفجر صوتان: أحدهما صوت المؤذن الذي كان يدعو إلى الصلاة في جامع بيبرس، والآخر صوت جارنا الشيخ الذي كان شافعيا موسوسا ينفق نصف ساعة في إقامة الصلاة : ال ... ال ... الله ... الله ... ال ... الله أكبر، ثم يبدو له فيخرج من الصلاة أو يستأنف الدخول فيها: ال ... ال ... الله ... الله ال ... الله أكبر. ثم يمضي في صلاته حتى يتم الفاتحة أو يكاد، وإذا هو يخرج منها ويستأنف الدخول فيها، وما يزال يقبل ويدبر، ثم يبدأ ويعيد، ثم يقيم الصلاة ويستأنف إقامتها، حتى إذا أشفق من فوات الوقت عزم أمره، وهجم على صلاته فاقتحمها اقتحاما ثم مضى إلى درسه في الأزهر الشريف.
أستغفر الله، فقد نسيت صوتا ثالثا كان يوقظني من السحر لا في الفجر، صوت ذلك الشيخ الظريف الذي لم يكن عالما ولا شيئا يشبه العالم، وإنما كان تاجرا أعرض عن التجارة، وانقطع للفكاهة والضحك في النهار، وللصلاة والنسك في الليل. فإذا أقبل السحر خرج من غرفته يهمهم ويجمجم ويضرب الأرض بعكاز غليظ، ويبعث في الجو صوتا هائلا رائعا يحمل جملا متقطعة من الورد الذي كان يبدؤه في غرفته ليتمه، ثم يستأنفه في مسجد الحسين، حتى إذا صلى الصبح عاد هادئا مطمئنا قد خف وقع عكازه على الأرض، وخف ارتفاع صوته في الجو؛ لأن الذين كانوا نياما في السحر قد أصبحوا أيقاظا حين ارتفعت الشمس. أستغفر الله، وقد أنسيت أصواتا أخرى، كانت تنبعث بعد أن ينقطع صوت المؤذن: فهذا سائق عربة قد أقبل يحل خيله أو يحل حماره الذي عقله تحت النافذة، وهذه «حمدة» التي كانت تبيع ألوان الفاكهة على اختلافها باختلاف الفصول تفرضها علينا نحن المجاورين فرضا، فإما اشترينا وإما تعرضنا لغضبها، وويل لمن كان يتعرض لغضب «حمدة»! فقد كان عنيفا مخيفا يضطرب له الربع ويزلزل له حوش عطى زلزالا!
على هذه الأصوات كنت أستقبل مصرا، وكانت تستقبلني مصر في الصباح، فإذا هبطت من الربع ومضيت إلى مدخل حوش عطى، فهذا صاحب القهوة قد أفاق، وهو يحك عينيه من بقية النعاس ويهيئ «الجوزة» للحاج فيروز، هذا الذي كنا نشتري من عنده أكثر ما نبتغي من ألوان الطعام. فإذا مضيت قليلا فهذه الحوانيت تستيقظ شيئا فشيئا، وهؤلاء باعة الفول والبليلة والطعمية قد ازدحم من حولهم الناس، حتى إذا تقدمت بعض الشيء عطفت ذات الشمال إن كنت مستعجلا، فمضيت من حارة الوطاويط، حيث أقذر مكان خلقه الله، وحيث أعظم الناس حظا من البؤس رجالا ونساء، قد جلسوا في أقبح شكل وأبشعه يسألون الناس. وإن كنت مستأنيا عطفت ذات اليمين، فمضيت من خان جعفر، وانتهيت على كل حال إلى شارع الحسين، ثم المفارق الأربعة، ثم انغمست في شارع الحلوجي، ثم دفعت إلى باب المزينين.
هذه مصري التي كان الزيات يريدني على أن أصورها له في الصباح، وأقسم لو فعلت لنفر مني وهزأ بي وازور عني ازورارا. ولكني واثق الآن بأني حين أتحدث إليه عنها أثير في نفسه عواطف يحبها وأحلاما يرضاها، وأبلغ من استحسانه ما أقصر عنه من غير شك لو أني صورت له مصر في الصباح هذه التي تبتدئ من داري في الزمالك، وتنتهي عند الكوكب في عابدين.
إن الزيات ليحسن أعظم الإحسان لو أنه وصف لنا مصره في الصباح، تلك التي كانت تبتدئ من قلعة الكبش، وتنتهي إلى الأزهر، وإن محمودا ليحسن أعظم الإحسان لو أنه وصف لنا مصره في الصباح، تلك التي كانت تبتدئ في ظاهر القاهرة المعزية - كما كان يقول - وتنتهي إلى الأزهر. فأما مصرهما الأخرى هذه التي تبتدئ في شبرا وتنتهي عند الرسالة، أو عند قبة الغوري، فلسنا في حاجة إليها الآن، وقد يحتاج إليها أبناؤنا بعد ربع قرن، كما نحتاج نحن إلى أمصارنا تلك العزيزة في أيامنا هذه.
من أحاديث العيد
صفحة غير معروفة