وكذلك كان الإعلان نفسه، لم يقبل عليه في أول أمره إلا المجربون ثم المطمئنون إلى التجربة، ثم لم يلبث هؤلاء المجربون أن كثروا، ولم يلبث هؤلاء المطمئنون أن تزايدوا وأصبح عددهم ضخما، ثم لم يلبث الإعلان أن أصبح أصلا من أصول حياتنا الحديثة، لا نكاد نتصور عملا من الأعمال الخطيرة أو الضئيلة التي نريد أن نقدم عليها، حتى نقدر حظ الإعلان منه أو حظه من الإعلان. فإذا أهملنا هذا التقدير فعملنا معرض للخطر، بل مقضي عليه بالإخفاق الذي لا مخرج منه ولا منصرف عنه.
والظريف أن هذا التقدير لأمر الإعلان قد أصبح جزءا طبيعيا، وهو مضحك بنوع خاص حين يتصل بأمور الثقافة، وحين يتصل بالإنتاج الأدبي الممتاز، ولا سيما في أوروبا، فلا يكاد الأديب أو الفيلسوف يفرغ من كتابه أو يفكر في إنشاء كتابه ويتحدث فيه إلى الناشر - وأنت تعلم أن من المؤلفين من يتفق على نشر كتابه قبل البدء فيه، ومنهم من يتفق على ذلك بعد الفراغ منه - حتى يكون الإعلان أول شيء يعرض له الحديث؛ فالناشر يحسب ما سيكلفه الإعلان من نفقة، والكاتب يحسب ما سيكلفه الإعلان من نسخ. وقد نشرت ترجمة الأيام بالفرنسية وتحدث إلي في أمرها الكاتب الفرنسي العظيم دي هامل، فكان مما قاله لي: «يجب أن توطن نفسك على توزيع 370 نسخة مجانا على الصحف ليعرف الكتاب، فبغير هذا لا سبيل إلى معرفته.» وقد حدثتك في الأسبوع الماضي عن كتاب دي هامل «الدفاع عن الأدب»، وهو من أشد الكتب بغضا للإعلان وسخطا عليه، وما أشك مع ذلك في أنه قد قدر أمر الإعلان مع الناشر حين هيأ كتابه هذا للنشر، قدر ما سيكلفه الإعلان من نسخ وما سيكلفه الناشر من مال، يحسب عليه هو في آخر الأمر.
فالإعلان إذن أصل من أصول الحياة الحديثة قد تغلغل في فروعها كلها، فلم يبق للناس سبيل للتخلص منه أو الفرار من سلطانه، وهو من هذه الناحية قد نجح نجاحا باهرا قاهرا، بل هو قد نجح من ناحية أخرى؛ فهو يفيد الذين يلجئون إليه ويحسنون الانتفاع به فائدة قريبة محققة، وهو يضر الذين لا يلجئون أو لا يحسنون الانتفاع به ضررا قريبا محتوما. فالتاجر الذي يحسن الإعلان، وينفق عليه الأموال الضخمة ناجح رابح، والتاجر الذي يقصر في ذات الإعلان أو تقصر يده عما ينبغي له من الضحايا والقربان خاسر مقضي على تجارته بالكساد من غير شك. والكتاب الذي تعلن الصحف ظهوره ومحاسنه سريع النفاد، والكتاب الذي تجهله الصحف أو لا تذكره إلا قليلا بائر على مؤلفه وناشره جميعا بإذن الله.
والحزب السياسي الذي يظفر بالصحف المنتشرة الرائجة كثير الأتباع موفق إلى الظفر في حياته السياسية مهما تختلف ألوانها، والحزب الذي يقصر به الفقر أو ترتفع به الكرامة عن الإعلان مخذول مدحور في حياته السياسية مهما تكن مبادئه ومذاهبه، ومهما كانت استقامة أعضائه، ومهما يكن حظهم من رجاحة الحلم ونزاهة المقصد وحب الوطن وإيثار المنفعة العامة على كل شيء.
وقل مثل ذلك في كل ما يمس الجماعة وحياة الفرد، لا سبيل إلى الإقدام على عمل تنشئه إلا إذا قدرت حظ الإعلان في الترويج له، ولا سبيل إلى الإقدام على شيء تحتازه احتيازا ماديا أو معنويا إلا إذا عرفت رضى الإعلان عنه، وما أنتج من حسن رأي الناس أو سوء رأي الناس فيه.
كل هذا حق واضح قد أطال الناس فيه حتى أصبح ذكره حديثا معادا، ولكن هل أفادت الحضارة من هذه الظاهرة ما يصلحها ويرقيها ويدنيها من المثل الأعلى، ويقربها من الكمال الذي يقال إننا نسعى لندركه ولندنو منه؟ أم هل أفادت الحضارة من الإعلان ما يسوءها ويغض من قدرها ويضع من مكانتها، ويردها إلى هذه الغلطة التي لا تلائم ارتفاع النفوس عن الصغائر وتنزهها عما لا يليق بالقلوب الكريمة، هذه التي ينبغي أن تصوغها حضارتنا ذات الحظ العظيم من الامتياز فيما نزعم؟
هذه هي المسألة التي أشك فيها كل الشك، بل أكاد أقطع بأن الجواب عليها لا يرضي ولا يسر، بل لا يشرف، بل لا يسمح لنا بأن نفاخر بحياتنا الحديثة، وبما أنتجت من حضارة، وبما انتهت إليه من مثل عليا في الأخلاق؛ ذلك أن الإعلان يفقد قيمته كلها إذا اعتمد على العقل، وقام على ما يراه العقل أساسا للحياة الكريمة النقية من الفضائل وخصال الخير. فالإعلان الذي لا يقول إلا حقا، والذي لا يتحدث إلى الناس إلا بالصدق، والذي لا يتجه من الناس إلا إلى عقولهم وملكاتهم المفكرة المقدرة المتدبرة فيما تكون من رأي وما تصدر من حكم، هذا الإعلان لا وجود له، ولا يمكن أن يوجد، ولا ينبغي أن يوجد؛ لأنه لو وجد لما حفل به أحد، ولا أقبل عليه أحد، ولا أذعن لسلطانه أحد، ولكان أمره كفلسفة الفلاسفة وعلم العلماء، مقصورا على طبقة من الخاصة، بل من خاصة الخاصة، وكانت نتيجته إخفاقا تاما، وإفلاسا محتوما، وليس من العسير أن توازن بين الكتب القيمة ذات الخطر العظيم التي لا يعلن أصحابها أو ناشروها أمرها إلا بمقدار وفي صحف معينة قد خصصت لها ولأمثالها، وبين الكتب الأخرى المتوسطة أو ذات الخطر الضئيل أو التي لا خطر لها، ولكنها تظفر بالإعلان الهائل الذي لا يصدر عن عقل ولا عن صدق ولا عن نصيحة للقارئ، وإنما يصدر عن رغبة في البيع وحرص على الرواج؛ فسترى نتيجة هذه الموازنة مصدقة لهذه الحقيقة الواضحة، وهي أن الإعلان لا نفع له إلا إذا اعتمد على شيء غير الصدق، وصدر عن مصدر غير العقل، وقصد إلى شيء غير النصح والإرشاد.
وتعليل ذلك يسير عند علماء النفس وعلماء الاجتماع، فصاحب الإعلان مروج، ومروج في بيئة اجتماعية تختلف طبقاتها وتتفاوت أقدار أفرادها وحظوظهم من العلم والجهل، ومن الذكاء والغباء، ومن قوة الحس وبلادة الطبع، ومن سرعة التصديق والإبطاء فيه، ومن سهولة الانقياد وصعوبة المراس، ولا بد من أن يتجه الإعلان إلى هؤلاء جميعا، ولا بد من أن يبلغ هؤلاء جميعا ويصل إلى نفوسهم، ويحدث فيهم الأثر الذي يريده صاحب الإعلان. فالإعلان لون من الخطابة التي تتجه إلى الجماهير، ولكنه لا يتجه إلى جمهور بعينه قد اشتمل عليه مكان محدود وأحاط به إطار معنوي محدود، وإنما هو خطابة مكتوبة، فيه خصائص الخطابة التي تتجه إلى عواطف الجماهير، وتهاجم منها مواطن الضعف لتقهرها وتبهرها وتبلغ منها كل ما تريده، وفيه خصائص الكتابة التي تتجه إلى الغائبين منفردين ومجتمعين، فتقرأ جهرا وتقرأ سرا، ويقرؤها الفرد وحده ويقرؤها الفرد مجتمعا إلى غيره، وهو من هاتين الناحيتين بعيد كل البعد عن أن يكون شيئا عقليا ممتازا أو متوسطا قوامه الصواب والصدق والنصح والإخلاص، إلا أن يكون الإخلاص متصلا بما يريد المعلن أن يروج له ويدعو إليه.
فالإعلان إذن شيء يقوم على غير الصدق وعلى غير الصواب في أكثر الأحيان، وتلاحظ أني متحفظ محتاط لا أصطنع كلمة الكذب ولا كلمة الخطأ؛ لأني لا أريد هاتين الكلمتين، وإنما أريد شيئا وسطا بين الصدق والكذب، وشيئا وسطا بين الخطأ والصواب، وشيئا وسطا كذلك بين النصح والغش، وبين الإخلاص والنفاق، وأريد شيئا أقل مما يتصف به أنه غامض من جميع نواحيه إلا من ناحية الترويج لما يريد المعلن أن يروج له، والدعوة لما يريد المعلن أن يدعو إليه؛ أي من ناحية تحقيق المنفعة القريبة العاجلة مهما يحط بها من الظروف الحسنة والسيئة، النقية والكدرة، البريئة.
ومعنى هذا كله أن الإعلان حين اندس في الحضارة الحديثة وتغلغل في أعماقها حتى أصبح لها قواما، قد دس فيها عنصرا غامضا مبهما خطرا، قوامه الشبهات، وقد أضعف بهذا العنصر حظ العقل من التأثير في الحضارة، وحظ الاختيار القائم على التفكير الصحيح وعلى تحري الصواب والإخلاص في هذا التحري. وهو بهذا قد ألغى حظا عظيما جدا من حرية الفرد ومن حرية الجماعة، واستبعد الناس لفريق قليل ضئيل من هؤلاء الذين ينظمون الإعلان ويصوغونه ويذيعونه ويشرفون عليه.
صفحة غير معروفة