ولكن هذه كلها ظواهر تنتهي عند أيسر التروية والبحث إلى أن هؤلاء جميعا مهما يكن بينهم من الاختلاف وتباين النشاط إنما يصدرون فيما يعملون عن الفكرة التي تنشأ في مكتب الأستاذ من أساتذة الجامعة أو من أساتذة المدارس الفنية الخاصة أو في معمل من معامل التجربة والاستقصاء. عن العقل إذن تصدر القوة فتبعث على العمل، وإلى العقل إذن تعود القوة فيدركها التمحيص والإصلاح والتهذيب؛ فالذين يلغون من حسابهم في سياسة الأمم وتدبير الشعوب رجال العقل والتفكير، يخطئون خطأ فاحشا ويأثمون إثما شنيعا. وحياة العقليين مغرية لغير العقليين بإهمالهم والإعراض عنهم، فالعقليون مبهورون بروعة البحث وجمال العلم، منصرفون إليهما عن أي شيء آخر، لا يكادون يفكرون في النتائج العملية والآثار المادية لحياتهم العقلية العليا. هم يحسنون إلى الناس ويلقون منهم العقوق والإعراض، ولا يحسون هذا العقوق والإعراض لأنهم في شغل بحقائق العلم عن صغائر الأمور، وكل ما ليس علما فهو عندهم من صغائر الأمور، ولكن حياة الأمم ليست أمنا كلها، وكثيرا ما يعرض فيها الخوف، وكثيرا ما يعرض فيها الفزع. والخوف والفزع أبغض الأشياء إلى العقليين؛ لأنهما يحولان بينهم وبين الاستمتاع بروعة البحث وجمال العلم. فالعقليون معرضون عن كل شيء إذا أمنوا على نشاطهم العقلي، فإذا لم يأمنوا فهم كغيرهم من الناس، بل هم أكثر من غيرهم من الناس قلقا واضطرابا، ثم سخطا وإنكارا، ثم ثورة واندفاعا في الثورة. وتستطيع أن تبحث في تاريخ الأمم المتحضرة كلها فستجد حياة العقليين فيها ملائمة كل الملاءمة لهذه الصورة التي أعرضها عليك. فإذا قال قائل إن الجامعة في مصر بعد أن تم لها استقلالها، وتم لها تكوينها القوي، قد أصبحت أعظم قوة معنوية في هذا البلد؛ فهو لم يقل شيئا غريبا، ولم يستكشف شيئا يحتاج استكشافه إلى الذكاء. ولقد استأنفت الجامعة المصرية حياتها هادئة، ولكنها لم تكد تمضي في هذه الحياة أسابيع حتى أحست قلقا من حولها أخذ يعظم ويشتد، ثم أخذ يسعى إليها هي سعيا، ثم أخذ يستقر فيها استقرارا إن أمكن أن يستقر القلق.
فهذه القصة التي ثارت حول قبول الطلاب في بعض الكليات، ثم العدول بهم عن هذه الكليات، ثم الرجوع بهم إليها، لم تترك الجامعيين وما كانوا يحبون من دعة وهدوء. بل لم يقف أمر هذا القلق الجامعي عند هذه القصة، وإنما كانت هذه القصة مظهرا من مظاهره، وليس سرا من الأسرار أن الجامعيين قضوا الشهر الأول من ذلك العام قلقين أشد القلق، ضيقين أشد الضيق، يكاد التشاؤم يكون أظهر ما يساور نفوسهم من عاطفة أو شعور. وكانت الجامعة في هذا القلق والتشاؤم مرآة للشعب كله؛ فهؤلاء الآلاف من الأساتذة والطلاب صورة لأسرهم الكثيرة المنبثة في أقطار مصر، وكل منهم يحس ما تحسه أسرته من أمن وخوف ومن قلق واستقرار، فلما كانت الأزمة السياسية صادفت جامعيين قلقين لا يجدون من حولهم ما يمكنهم من الفراغ الآمن بما يحبون من بحث ودرس، فاضطربوا ثم اتصل اضطرابهم، ثم اشتد ثم استمر، ثم لم يحفل بالنذر ولم يكترث للوعيد، ثم مضى في طريقه وقد أبى إلا أن يقول الجامعيون رأيهم واضحا صريحا حازما مهما يكلفهم ذلك من هول. وقد قال الجامعيون رأيهم حازمين مخلصين، وقد اضطربت من حولهم الأمور وجاءتهم النذر يسعى بعضها في أثر بعض، فلم يغيروا من موقفهم شيئا، وإنما مضوا أمامهم حتى انتهوا إلى ما انتهوا إليه. وقد يكون من الحق أن يسجل للجامعيين أنهم كانوا قوام هذه الحركة الأخيرة، بدأت في جامعتهم ثم مضت معهم في جميع الأنحاء والأرجاء، قوية حازمة ماضية لا تلوي على شيء. وقد يكون من الحق أيضا أن يسجل للجامعيين أنهم رأوا في اجتماع الكلمة وسيلة إلى الاحتفاظ بكرامة مصر والذود عن حقها، فاعتزموا أن يصلوا إلى جمع هذه الكلمة، ووفقوا من ذلك إلى ما أرادوا. ولو لم يكن للجامعيين إلا أنهم قد وحدوا الكلمة بعد اختلافها وجمعوا الرأي بعد افتراقه، وأنبئوا العالم كله بأن مصر لم تنس حقها ولم تطمئن إلى الضيم ولم ترض العنف والخنوع، لكان هذا وحده خليقا أن يسجل على أنه فصل من أروع فصول التاريخ لهذه الجامعة الناشئة.
وقد يلاحظ على الجامعيين أنهم أقحموا أنفسهم وجامعتهم في السياسة، وما ينبغي للجامعيين ولا للجامعة أن يكون بينهم وبين السياسة سبب من قريب أو بعيد. وقد سجل مجلس الوزراء هذا اللوم تسجيلا في القرار الذي أصدره فأغلق به الجامعة إلى أجل غير مسمى، وأظنني أصف رأي الجامعيين أصدق الوصف إن قلت إنهم يكرهون السياسة أشد الكره، ويكرهون أن يدفعوا إليها، ويتمنون دائما لو استقامت الأمور ومضت على وجهها ففزعوا لدرسهم وبحثهم وانصرفوا إليهما عن غيرهما من أعراض الحياة. ولكن الجامعيين كغيرهم من المصريين مكلفون بالذود عن وطنهم حين يتعرض للخطر، والدفاع عن كرامة وطنهم حين تهان. أفلو اعتدى معتد على مصر واضطر حكومتها إلى أن تعلن الحرب يعفى الجامعيون من حمل السلاح والسعي إلى الميدان؟ كلا إن الذود عن الوطن لا يعرف جامعيا ولا غير جامعي، وإذا تعرض الوطن للخطر فالمصريون جميعا سواء يجب عليهم أن يشتركوا في التضحية حتى يأمن الوطن بعد خوف.
وإنما يلام الجامعيون إن دخلوا في السياسة الحزبية، أو أعانوا فريقا من المصريين على فريق. فأما أن يدخل الأجنبي في شئونهم فينكروا عليه ذلك ويردوه عنه أشد الرد فواجب وطني لا يسعهم التقصير فيه إلا أن ينكروا مروءتهم ورجولتهم. وويل للجامعة إن كان من برنامجها قبول أبنائها للضيم وإذعانهم للسلطان الأجنبي!
تجربة
أما أنها نجحت نجاحا باهرا قاهرا فذلك شيء لا شك فيه، وأما أن نجاحها كان خيرا للناس وللحضارة فهذا هو الشيء الذي أشك فيه كل الشك، ولعلي أقطع بما يناقضه من جميع الوجوه، ولنعرف أولا ما هذه التجربة الناجحة المخفقة، الرابحة الخاسرة، التي أحيت ناسا كثيرين وعرضت خير ما في الإنسانية للشر والتلف، والتي خيلت إلى الناس أن حضارتهم قد بلغت من الرقي أقصاه، وانتهت من الكمال إلى غايته، على حين أنها زلزلت أركان هذه الحضارة، حتى انتهت بها إلى ما تتعرض له الآن من الانهيار؛ وأريد بها تجربة الإعلان أو تجربة الدعاية.
وقد قلت إن نجاحها ليس فيه شك، وما أظن أحدا ينازع في أن الإعلان قد أصبح من أصول الحياة الحديثة وركنا من أركانها، بل لعله أصبح أهم أصولها وأعظم أركانها خطرا. عظم شأنه في التجارة والصناعة فكان مروجا للبيع والشراء والأخذ والعطاء، ثم عظم أمره في السياسة وأمور الحكم فكان مروجا للأحزاب السياسية، وكان حكما بين هذه الأحزاب يقضي لبعضها على بعض، ويديل لبعضها من بعض. وكان مروجا للحكومات حين تنهض بأمور الحكم، وللمعارضة حين تقاوم هذه الحكومات، وكان إليه الأمر في كل ما يكون؛ من قيام الوزارات وسقوطها، ومن ظفر الأحزاب في الانتخاب وانهزامها. أعانه على ذلك انتشار القراءة والكتابة، وانتشار الصحف التي تحمل إلى قارئ ما يستطيع أن يقرأ، والتي تدس على كل قارئ فيما يقرأ هذا الإعلان أو ذاك، تروج به لما تراد على أن تروج له من أمور التجارة والصناعة والسياسة، ومن أمور الثقافة أيضا.
ثم أتاح العلم والاختراع للصحافة شريكا له خطره وأثره في الإعلان، وهو الراديو. هذه تروج بالقراءة في الصباح والمساء، وحين يتوسط النهار وحين يتقدم الليل، وهذا يروج بالإلقاء في كل ساعة من ساعات النهار والليل، بل في كل لحظة من لحظات النهار والليل.
هذه تسلك إلى النفس طريق العين، وهذا يسلك إلى النفس طريق الأذن، وكذلك يحاط بالفرد وبالجماعة من جميع وجوههما، ويؤخذ الفرد والجماعة من جميع أقطارهما، يخضعون للإعلان في كل لحظة من لحظات الحياة، والإنسان - كما قال أرسطاطاليس - مدني بالطبع، وليس معنى ذلك أنه بطبعه يحب الحياة المنظمة تنظيما سياسيا دقيقا فحسب، بل معناه أيضا أنه يتأثر أشد التأثر بهذه الظواهر التي تنشأ ويدعى إليها ويقبل عليها بعض الناس حتى يتهالك الناس جميعا عليها، وما أسرع ما تصبح لهم نظاما ولحياتهم قواما! كأنها أصل من أصول الحضارة وضرورة من ضرورات العيش.
لقد عرفت القطارات فأعرضت عنها كثرة الناس إعراضا، وأقبلت عليها منهم قلة، ولكن وقتا قصيرا لم يمض حتى أصبحت القطارات أساسا من أسس الحضارة الحديثة، ثم تقدم الاختراع وأنشئت وسائل أخرى للمواصلات أسرع وأيسر من القطارات، فقاومها الناس وأقبلت عليها قلة، ثم لم تلبث أن أصبحت أصلا من أصول الحياة.
صفحة غير معروفة