60

من هناك

تصانيف

نعم، لم أكن في حاجة شديدة إلى أن يوصف لي المنظر؛ لأن الموسيقى كانت تغنيني عن هذا الوصف، فكنت أحس في الموسيقى القرب من البحر، وكنت أسمع في الموسيقى أمواج البحر تضطرب وتصطخب رقيقة حينا كأنها حديث العاشقين، غليظة حينا آخر كأنها قصف الرعد، وكنت أجد في الموسيقى رقة الهواء ونعومته، وكنت أسمع هذه الموسيقى فلا أشك في أن الجو كان صافيا رائقا، أو أنه كان كدرا يهيئ للعاصفة.

كنت لا أشك في شيء من هذا، وكنت لا أشك في شيء آخر هو أجل من هذا خطرا وأعظم شأنا، كنت لا أشك في أن هذه القطعة الموسيقية تمثل ما يحدث في نفسي الآن من اضطراب العواطف واصطخابها وما يقع بينها من تنازع ومشادة، وكنت لا أشك في أن هذه القطعة الأخرى تمثل الضعف الذي ليس بعده ضعف، تمثل هذا الضعف الذي يسلبك كل قوة على المقاومة، ويجعلك غير قادر إلا على أن تفتح جفنيك لتسقط منهما قطرات الدمع متتابعة منهمرة! نعم وكنت لا أشك في أن هذه القطعة الأخرى تمثل الغيظ والحنق، هذا الغيظ الذي تنقبض له أعصابك، فإذا جبينك مقطب، وإذا الدم يغلي في رأسك، وإذا أنت قد أطبقت يديك، وإذا أنت تقاوم هذا الميل الشديد الذي يدفعك إلى أن تهب وتهجم على فريستك. لم أكن أشك في شيء من هذا؛ لأني كنت أحسه، وأنتقل فيه من طور إلى طور، بل هناك ما هو خير من هذا، هناك هذه القطع الموسيقية التي تبعث في نفسك شيئا من الحنان والرحمة، ومن الطمأنينة والدعة، لا أستطيع أن أصفه، ولا يستطيع إنسان أن يصفه؛ لأن وصفه لم يتح للجمل والألفاظ، وإنما أتيح للأنغام والألحان وحدها.

ولكني عاجز - كما قلت - عن أن أصف جمال هذه القصة من الوجهة الموسيقية، أفتريد أن أصف جمالها من الوجهة الأدبية؟ لقد كنت أحب ذلك، وأرغب فيه، ولكن أليس خيرا من هذا الوصف الذي لا يمكن إلا أن يكون موجزا مختصرا أن ترجع إلى هذا الجمال في أصله، وأن تستقيه من ينبوعه، فتقرأ النشيد الرابع والعشرين من «الأودسا»؟ تجد في هذا النشيد قصر الملك «أوليس» قد غاب عنه صاحبه منذ عشر سنين؛ لأنه ذهب إلى «ترواده»، وانتصر فيها، فلما أراد العودة إلى بلده عبث به، وبأسطوله «بوزيدون» إله البحر، فأضله الطريق، وأخضعه لطائفة من المحن، وبينما كان الملك وأصحابه يخضعون لعبث «بوزيدون»، وغيره من الآلهة كانت الملكة «بينيلوب» تنتظر زوجها في لوعة وحسرة، وفي حب ووفاء، وكانت طائفة من زعماء اليونان قد احتلت قصر الملك، وأخذت تعبث بما فيه ومن فيه، فتأكل شاء الملك وثيرته كما تقول القصة، وتشرب خمره، وتعبث برقيقه، وتلح على الملكة في أن تختار من بينها رجلا يكون لها زوجا، فيخلف «أوليس» على ملك «إيتاك»، كانت هذه الطائفة تلح والملكة تقاوم، فلما أعيتها المقاومة أخذت تراوغ، فأعلنت إلى هؤلاء أنها ستختار من بينهم زوجا إذا فرغت من نسج كفن أخذت نفسها بنسجه لأبي زوجها، وقبل الزعماء منها ذلك، فأخذت تنسج الكفن يومها حتى إذا كان الليل نقضت ما أبرمت، ثم تستأنف النسج إذا أصبحت والنقض إذا أمست والزعماء ينتظرون، ويعبثون بالقصر، وما فيه، ومن فيه. •••

فإذا كان الفصل الأول من القصة ظهر خادمات القصر يغزلن ويتحدثن فيما بينهن، وحديثهن لذيذ، فهن يغنين ما هن فيه من ألم وحرمان، وهن يتغزلن بجمال الزعماء، وترغب كل واحدة منهن في واحد منهم، وهن يرثين للملكة، وينكرن عليها غلوها في الوفاء، وإنهن لفي ذلك إذ يقبل الزعماء يريدون أن يتحدثوا إلى الملكة، وتأبى الخادمات إنباء الملكة بمكانهم؛ لأنهن لا يستطعن أن يدخلن عليها إلا إذا دعين، وبينما الزعماء في حوار مع الخادمات تقبل مرضع الملك فتمانعهم، ويكون بينها وبينهم حوار ومسابة، ثم تقبل الملكة، فيشتد الخلاف بينها وبين الزعماء تهينهم، وتنعي عليهم، وهم يتملقونها، ويتلطفون بها، تمانعهم وتأبى عليهم ما يريدون، وهم يلحون عليها في أن تسرع، فتختار من بينهم زوجا، ثم يقدم شيخ رث فان يطلب الصدقة والمأوى، فينبذه الزعماء، وتؤويه الملكة، وهذا الشيخ هو «أوليس» قد وصل إلى جزيرته، وأمرته الآلهة «أتينا» أن يتنكر ويحتال في طرد الغاصبين، والانتقام منهم ... لا تعرفه الملكة، ولكن المرضع تعرفه، وتعاهده على أن تخفي أمره، ينصرف الزعماء، وينصرف الشيخ إلى طعامه، وتبقى الملكة وحدها، فتنقض ما نسجت، ولكن الزعماء كانوا قد رصدوا لها فاستكشفوا حيلتها، فيغيظهم ذلك، ويعلنون إلى الملكة أن الغد لن ينقضي حتى تكون قد اختارت لها زوجا، ثم ينصرفون، تخرج الملكة ومرضع الملك لتذهبا إلى شاطئ البحر كما اعتادت منذ سنين تترقبان سفينة ما لعلها تقبل، وعلى ظهرها الملك، ويتبعهما الشيخ. •••

فإذا كان الفصل الثاني رأيت رعاة الملك يتحدثون فيما بينهم، ويتمنى بعضهم لبعض ليلا سعيدا، ويتغنون جمال الطبيعة وسحرها، ثم تقبل الملكة ومن معها فيكون بينها وبين الشيخ حديث بديع، يظهر فيه ما يضمر الزوجان من حب ووفاء، ومن لهفة ولوعة، ولكن الملك يخفي نفسه، فإذا سئل عن أمره أخبر بغير الحق، واتخذ هذا الأخبار وسيلة إلى التغزل بزوجه من طرف خفي، ولكن في جمال ورقة، وحسن مدخل، ثم تجزع الملكة إشفاقا من غد، فيقترح عليها الشيخ أن تعلن إلى الزعماء أنها ستختار من بينهم من يستطيع أن يشد قوس «أوليس»، ثم تنصرف الملكة، ويتعرف الملك بعد ذلك إلى رعاته، ويأمرهم أن يكونوا في القصر غدا، وأن يتخذوا السلاح ليعينوه على الانتقام. •••

فإذا كان الفصل الثالث رأيت الملك وحده يتغنى غضبه وسخطه، وحرصه الشديد على الانتقام، ثم يكون بينه وبين مرضعه ورعاته أحاديث قصيرة، ثم يقبل الزعماء وقد تهيئوا للقصف واللهو، فيسخرون من الشيخ، ويريدون طرده، ثم يبدو لهم فيتخذونه سخرية، يسقونه ويضحكون منه، ويظهر الشيخ أنه سكران، وتقبل الملكة فتعلن إليهم أن من شد قوس «أوليس»، ورمى عنها فهو زوجها، فيعجزون، ويتقدم الشيخ الفاني إلى القوس فيشدها، ويرمي عنها، ولكن في صدر أحد الزعماء، هنا يظهر الملك نفسه، وينتقم لشرفه، وثروته، وملكه، يعينه الرعاة على هذا، ثم تنتهي القصة بمظهر الحب والغبطة بينه وبين الملكة من جهة، وبينه وبين الشعب من جهة أخرى.

فأنت ترى أن ليس في القصة شيء غريب، وأنها من السذاجة والسهولة بحيث تلائم القرن التاسع أو العاشر قبل المسيح، أيام أنشئت «الإلياذة» و«الأودسا»، ولكني أضمن لك لذة عظيمة إذا قرأت هذه القصة، ولذة لا حد لها إذا قرأتها في «الأودسا». فأما إذا شهدت القصة الموسيقية في «الأوبرا كوميك» فلست أدري ماذا أضمن لك، وإنما أحدثك صادقا بأني قضيت ليلة سعيدة، كنت أحسبني أثناءها في عالم آخر، ولم أتنبه إلى أني في الأرض إلا حين سمعت ابنتي تتغنى وتصيح، ورأيت ابني يعبث بما حوله، وسمعت أمه تزجره وتنهاه.

صفحة غير معروفة