مائة جنيه؟ يا للبخت ...! لم تكن أحلامه لترتفع إلى هذا الحد ... إنها لثروة؛ وقسم النقود قسمين، واشترى حافظة ثمينة فوضع فيها نصف ما ربح وخاط جيبه على الباقي ... لقد دبر أمرا ليخدع أباه حتى لا يحرمه المال كله ...
وخرج الشيخ «متولي» من المسجد يداعب سبحته بيده ويتمتم بالتسبيح والدعاء، وهو في هم ناصب لمقدم ولده من غير داعية ... وقبل الفتى يد أبيه، وقال له وهو يبتسم: كنت مشتاقا إليك ...!
قال أبوه غضبان: مشتاقا إلي ...؟ وهل جئت من أجل ذلك؟ حسبتك رجلا يا إسماعيل! - نعم ... ولكن ... - لكن الرجل يجب أن يكون على قوة احتمال وصبر، ولست ولدي إن لم تكن رجلا! - بلى، وإنما قدمت لأمر ... - أي أمر ...؟ - لقد ربحت خمسين جنيها فرأيت أن أجعلها عندك ... - خمسين جنيها ...! - نعم!
وانبسطت أسارير الرجل، وداعبت شفتيه ابتسامة، واتسعت حدقتاه، وعاد يقول: ومن أين لك رأس المال؟ لم تخبرني من قبل أنك في تجارة ... - لقد ربحت ورقة نصيب! - وي ...! ورقة نصيب؟ قمار! ميسر ...!
واستوى عوده، وانكمشت يده، واختلجت شفتاه، ثم قال: لا، ويحك، لا تجعلها في مالي، إنني رجل شريف، إن مالي من عرق جبيني فلا أريد أن يمحقه المال الحرام ...! - أبي ...! - اسكت لا أب لك، قم فردها إليهم، دعهم يفرقونها على أصحابها المساكين، من يد كم بائس اجتمعت هذه القروش حتى عادت خمسين جنيها ...؟ إنهم يخدعون الجهال البائسين فيسلبونهم القروش القليلة التي يملكونها؛ ليوهموهم أنهم سيقاسمونهم بعض ما يجمعون، بل بعض ما يسرقون ...! - وهل يمكن ...؟ - يمكن أو لا يمكن، لن أجعلها في مالي؛ إنها ملوثة، قذرة. هل تعرف من أين اجتمعت ...؟ - لا أعرف ...! - المال الحلال يعرف دائما مأتاه ...!
كان الولد يضحك في سره ووجهه عابس، ولم تنته المناقشة بينهما إلى حد، فقد تحرج الشيخ الورع أن يضم ربح «الميسر» إلى ماله، ولكنه لم يسأل نفسه عما سيفعل ولده بالمال ...
وعاد إسماعيل إلى القاهرة، ولكنه لم يأو إلى داره إلا بعد ليال ثلاث ... وأطل الفتيات من خلف الباب يشهدن إسماعيل عائدا إلى الدار يصعد الدرج في زهو وكبرياء، وعليه بذلة جديدة، وفي عينيه فتور ينبئ أنه قضى ليله سهران ...
وترامى إليهن غناؤه من فوق السطح أكثر حنانا وفتنة، كما بدا هو أكثر مرحا ونشاطا مما كان. وتبادل الفتيات النظر، ثم ولجن غرفهن وغلقن الأبواب ...
لم تحاول واحدة منهن أن تصعد إليه بمرأى من صواحبها، فقد بدا لهن مما تغير من هيئته وحركاته كأنه شخص آخر غير إسماعيل الذي يعرفنه ويثقن بعفته وأدبه، وكأنما ألقي إليهن جميعا معنى واحد، فخجلن أن يبدون له، ولكن كل واحدة منهن راحت تؤمل أن تجد فرصة من غفلة رفيقاتها لتصعد إليه وحيدة، وسبقت بعضهن إليه، ولكنها لم تظهر له أو لواحدة من صواحبها أنها تعمدت أن تصعد ...
واستقبلها إسماعيل ضاحكا، وهز يدها بلطف، وجلسا يتبادلان الحديث. ثم افترقا على ميعاد ... ووجد الفتى تعبير رؤياه، وكان حلما أشرق عليه الصبح فأتمته اليقظة التي تصنع الأحلام!
صفحة غير معروفة