ووقفت ذات مساء على باب مسرح كبير من مسارح اللهو تجيل عينيها في إطار كبير يضم شتيتا من صور الراقصات وربات الفن، وطالت وقفتها، ثم انصرفت. وفي الليلة التالية كانت جالسة في الصف الأول من بهو المسرح تشهد التمثيل وحدها، ليس معها أحد من ذويها، واستطاعت في ختام الليلة أن يكون لها رأي فيما شهدت من ألوان الفن وفي عيوب الممثلين وغلط الراقصات ...
وفي الصبح كانت جالسة إلى بعض زميلاتها في حوش المدرسة تحدثهن حديثا طويلا عن عيوب الفن المصري في الرقص والتمثيل والغناء، وتشخص العلة وتصف الدواء؛ وأمن صديقاتها على ما قالت، فما تشك واحدة منهن في أن من حق قدرية أن يكون لها رأي في الرقص والتمثيل والغناء، وإنهن ليسمعن من حديثها كل يوم ما يشهد بكفايتها وسعة معارفها في تلك الفنون ...
وتلقت قدرية بعد الدرس الأول دروسا كثيرة، في المسرح والسينما، وفي الصحف والكتب، وما نسيت مع كل أولئك شيئا مما رأت في تلك الليلة التي كانت ... لقد استقرت في أعماقها أصداء الهتاف والتصفيق التي سمعت ليلتئذ ... ورنين كلمات الإعجاب والرضا التي وعتها أذناها، وصورتها بين الأشعة الملونة تنسكب عليها من جوانب المسرح وتحت قدميها أكداس الزهر ... وبقي كل أولئك في نفسها مشهدا حيا كأنها ما تزال بين أشعته وألوانه، فإنها لتجد لتذكره لذة فنية تحبب إليها حياتها وتجدد لها في كل يوم أمانيها ...
قال صديقي: وانتهى عهدي بقدرية وانتهى عهدها بي، فقد أتمت دروسها بالمدرسة ومضت لشأنها، وتصرمت سنون ... ونسيت أمرها وما كان ...
وفي ليلة من ليالي الصيف الماضي صحبت أهلي إلى سهرة في بعض ملاهي الإسكندرية، ووقفت بباب الملهى العائم بين الأمواج المصطخبة، أقرأ البرنامج المنشور على الباب وأشاهد الصور، ورأيت صورة، فهجس في نفسي هاجس لم يلبث أن تلاشى ...
ودخلنا واتخذنا مقاعدنا على مقربة من المسرح ... ومضت لحظات، ثم رن الجرس ورفعت الستارة، وتتابعت المشاهد فنونا توقظ الفكر وتجلو صدأ النفس وتسري عن المهموم، وفجأة برز أمامي مشهد رائع ... يا لله ...! من كان يظن ...؟ هذه تلميذتي قدرية ...
وبدت لي في مثل هيئتها التي رأيت أول مرة على الملعب الكبير في القاهرة منذ سنوات، في ثوب منقوش كأنما اجتمعت أجزاؤه من أوراق الزهر، يكشف عن ساق ممتلئة مصقولة كأنما يجري فيها شعاع الشمس، وانحنت في رشاقة وخفة وهي تنثر ابتساماتها يمنة ويسرة ترد تحية بتحية، والمسرح يضج بالتصفيق والهتاف باسمها، ولكنه اسم جديد أسمعه لأول مرة في تلك الليلة ...
وغنت ورقصت، وضحكت وبكت، وتأمرت ثم ذلت، واستعطفت ثم دلت، ووعدت ثم تأبت، ومنعت ثم نولت، وقالت عيناها ... وقالت عيون الناس ... وقالت لي نفسي ...
وانتثرت أكداس الزهر على قدميها وأسدلت الستارة ...!
ليت شعري، هل كانت قدرية في أوليتها تتوقع هذه الغاية التي انتهى إليها أمرها؟
صفحة غير معروفة