لقد فارقت راجية القرية منذ سنوات بعيدة، لعلها لا تذكرها، أو لعلها تذكرها وتنكرها لئلا يكون ذلك نميمة على عمرها الذي تحرص على كتمانه ... ولم تذهب راجية بعد ذلك إلى القرية التي فارقتها طفلة، إلا مرة، مرة واحدة صحبت أباها في موسم الحصاد، وكانت يومئذ فتاة في أول صحوة الشباب، فما كادت تهبط القرية حتى لمت متاعها للرحيل، ثم لم تعد، فكيف يريدونها اليوم أن تهيئ نفسها لإقامة طويلة هناك، لا تدري متى تنتهي، وكيف تنتهي؟
وضاق صدر الفتاة، وخيل إليها أن يدا تشد على رقبتها فتمنعها أن تتنفس، وكانت أمها في حجرتها تعد حقائب السفر!
وأخذت الفتاة زينتها وخرجت لأمر من أمرها، ولم تنس أن تنظر في صندوق البريد قبل أن تجتاز الباب! وكانت الظهيرة حامية، والشمس تفرش الشوارع من أشعتها الحمراء، وقد خلت مركبات الترام إلا من الموظفين العائدين إلى بيوتهم يتأبطون صحفا وأضابير من أوراق الحكومة، أو يحملون إلى أهليهم من الفاكهة والحلوى، أو من الفجل والجرجير ...
واتخذت الفتاة مقعدها في الترام، وكان ثمة عينان تلحظانها من مقعد قريب، ولكنها كانت في غفلة بنفسها وبما يصطرع في قلبها من ألم ...
ولما همت الفتاة أن تهبط من الترام عند بيت الخياطة، نظرت، فرأته لم يزل ينظر إليها، فقنعت رأسها وتضرجت وجنتاها حياء، ثم مضت في طريقها لا تكاد تحملها رجلاها ...
وأجدت لها عيناه ذكرى وألما، وأطاف بها هم جديد ...
وحاولت الفتاة أن تمحو صورته من خيالها فما أطاقت، وكأنما تراءى لها في تلك اللحظة على غير ميعاد ليكون آخر ما يصحبها إلى القرية من صور المدينة! ... لم يكن «عابد» فتاها الذي تؤمل، ولكنها كانت فتاته. لقد كانت تعلم من أمره ما يحسبه هو سرا من سره، فإن له عينين لا تستطيعان الكتمان، تعبران عن معنى لا يبوح به لسانه ولا طاقة له به، على أنه لم يستطع بكل ما أطاق من قوة الحب أن يشغلها بأمره، ولا هو حاوله، ولكنها كانت تعرفه، وتحس وقع نظراته، وكان ذلك حسبها وحسبه، فإنها لتكبر نفسها وهي من هي وحيث هي، أن ينتهي أملها عنده، وإنها لترى كل يوم من ترى وتسمع ما تسمع، فإن لها في كل يوم أملا تأمله بالنهار وتحلم به في الليل ... كان ذلك وهي في المدينة المتراحبة التي لا يغيب نهارها حين تغيب الشمس ... أين هي غدا من أمانيها؟ وا أسفا! لكأنما ارتكبت إثما جوزيت عليه بالسجن إلى أجل غير مسمى!
لم تكن راجية تعرف من الفرق بين القرية والمدينة إلا هذه الأضواء الساطعة، وتلك الملاهي الساهرة، ثم صديقاتها اللائي تراهن كل يوم ويرينها، ليس لهن من حديث إلا عن الأزياء والسهرات وأخبار الفتيان والفتيات. وأنشأت لها هذه الحياة التي كانت تحيا أماني وأحلاما تراوحها وتغاديها في يقظتها وفي منامها، وحين جاءتها «الخاطبة» بأول فتى يطلب يدها أيقنت أنها قريبة من الغاية التي تهدف إليها، فراحت تبالغ في الطلب وتشتط في الشرط، وحرصت من يومئذ على أن تعرف ما لا يعرف إلا القليل عن طبقات الموظفين، ودرجات الوظائف، وسلالم الترقية لكل طبقة، ثم مضت تسترسل في أمانيها وحلقت في أفق بعيد، وراحت تتبع عينيها كل منظر، وترعي أذنيها كل نبأ، فاجتمع لها من المعارف بشئون الطبقة العليا من أهل المدينة ما خيل إليها أنها أوشكت أن تبلغ ... ... وعلى حين غفلة انطلقت زمارة الإنذار تدعوها إلى الرحيل ...!
وعادت الأسرة إلى القرية التي هجرتها منذ بضع عشرة سنة تلتمس حياة جديدة بين أنوار المدينة. لقد هجروا القرية يوم هجروها أربعة نفر، وعادوا إليها ثلاثة، وخلفوا رابعهم هنالك مرابطا ينتظر الآونة التي يدعوه فيها الوطن ليبذل شبابه!
واستيقظت راجية على صياح الديكة من وراء جدار، فنهضت من فراشها وفتحت النافذة تستروح روح النشاط والقوة ... ومر الراعي بنافذتها يسوق ماشيته ... فما إن رآها حتى طأطأ رأسه وأوفض في السير، ونظرت في أعقابه ثم ارتدت عن النافذة ...
صفحة غير معروفة