كانت بزيها البدوي، وعينيها الساهمتين، وشفتيها المطبقتين أبدا على ابتسامتها العابسة تمثالا صامتا يرمز إلى أبلغ معاني الوحشة واليأس والحرمان، حتى لا يكاد يملك من يراها إلا أن يتخشع ويصمت. وكان لها جمال، وفي سهوم عينيها سحر، وعلى جبينها طهر يتألق. وعلى أنها - فيما تبدو لمن يراها - قد جاوزت الأربعين، فقد كان لها روح الطفل وخفته ...
وتكرر اصطيافي سنين عند هذا الساحل، وتعودت أن أراها، حتى لأفتقدها حين تغيب ... وعرفت خبرها من بعد، فأعظمت وفاءها ورثيت لها.
لقد مضت بضع عشرة سنة منذ تلك الليلة التي خلفها فيها راجح ومضى لأمره يحاول أن يثأر لأبيه وأبيها ويستنقذ وطنه، ولكنها على كر السنين لم تزل كأنها منه على ميعاد، وكأنما كان ما كان منذ ليال، لم يزدها تعاقب السنين واختلاف الزمان وفراق الوطن إلا وفاء لذكراه.
وجلت عن أرضها مكرهة فيمن جلا من عمومتها وبني أبيها، ولكن قلبها بقي هناك، حيث وقفت لآخر مرة تتبعه عينيها وهو ماض تلفه رياح الصحراء في الليل القر.
وغنيت بذكراه عن الأمل في لقياه منذ جاءها النبأ الفاجع، ونذرت نفسها للوفاء بعهده، فلم تتزوج ولم تخلع الحداد.
ونسيت ما كان من ماضيها ومن أيامها، إلا صورته وذكراه، وتأيمت العذراء ولما تخلع أبراد الشباب!
وكانت بدرية في فراشها ذات مساء من سنة 1940، حين دوت زمارة الإنذار بغارة إيطالية لأول مرة في الإسكندرية، تنذر أهل المدينة ليأخذوا أهبتهم للوقاية ... وأشرق الصبح وقد هجر المدينة نصف أهلها فرارا بأنفسهم من الموت. وحملت بدرية متاعها ومضت مع الناس تلتمس سبيلا إلى النجاة.
يا رحمة الله للمسكينة مما يطاردها من أحداث الزمن!
وأعياها المسير، فحطت متاعها عن كاهلها وجلست تستريح على حيد الطريق، ومر بها فوج من الجند فمدت عينيها تنظر ...
لم يكن هؤلاء الجند من المصريين، نعم، ولم يكونوا من الإنجليز، ولكنهم طائفة من بدو الصحراء قد اتخذوا شعار الجندية واصطنعوا نظامها، وعليهم شارة الجند المحاربين ...
صفحة غير معروفة