إثبات الشيء ونفي صفاته: وهو نمط فكري يجمع بين إثبات النقيضين ونفيهما. فإثبات الشيء اختيار عقلي، ولكن تسارع عواطف التأليه فتنفي ما أثبته العقل خشية الوقوع في التحديد، والعواطف تحب الإطلاق. فهو أشبه بخطوة إلى الأمام يقوم بها العقل ثم خطوة إلى الخلف تقوم بها عواطف التأليه. وفي النهاية تكون الحصيلة أنه لا يوجد ما يقال. فمثلا عبارة: «إنسان دون أن يكون جسما» تثبت الشيء وتنفي صفته. فالإنسان لا بد وأن يكون جسما، ولا يوجد إنسان لا جسم له. لقد حكم العقل بالإثبات والعاطفة بالنفي. ونضع أمثال هذه العبارات طرفي النقيض معا دون إيجاد العلاقة بينهما، رغبة في التوسط وعدم التوسط أو إحساسا بأن الحقيقة في إيجاد مركب للموضوع ونقيضه دون أن تدري كيف. فتضع الموضوع بجوار نقيضه دون أن تتحقق الحركة بينهما. هي عبارات تدل على رغبة في الإيمان وعلى نقص في التحليل العقلي. عبارات تتوالى على شيء واحد يثبت أولا وينفى ثانيا، أي أنها مجموعة قضايا مثبتة ومنفية في آن واحد.
27
كما يمكن إثبات شيء ثم تنفى عنه أية مشابهة بينه وبين الشيء المعروف بهذا الاسم وجعله شيئا فريدا يشترك في الاسم دون الاشتراك في المسمى، مثل: «جسم لا كالأجسام». فالجسم معروف، ولكن الجسم الذي لا كالأجسام مجهول. الجسم حكم العقل ونفي المشابهة حكم العاطفة. هذا، فضلا عما في ذلك من قضاء على اللغة. وكيف تستعمل لغة أسماءها ثم لا تنطبق على مسمياتها؟ وكيف لنا العلم بهذه المسميات الجديدة؟
28
وقد يثبت الشيء ثم يخصص النفي بأنه نفي للمشابهة بين هذا الشيء وبين عالمنا هذا وما به من أشياء متشابهة. لما كان الشيء هو الشيء الإنساني يسارع النفي وينفي المشابهة مع الشيء الإنساني بالذات كنفي لما يحدث في الشعور. فالنفي دليل على أن ما يحدث في الشعور هو عكس المنفي، أي المشابهة، ولا ينفي المشابهة. فالقائل: «لست أسود» قد يكون أسود ينفي السواد عنه! ومثل ذلك كثير «يعلم لا كعلمنا»، «يرى لا كرؤيتنا»، «يسمع لا كسمعنا» ... إلخ.
29
وقد تكون الرغبة في إثبات التنزيه معا وفي نفس الوقت مجرد تحصيل حاصل.
30 (4)
إثبات العلم بشيء والجهل به: ويعني ذلك أن العقل يثبت شيئا ثم تأتي العاطفة وتنفي ما يثبت العقل. يثبت العقل التعين، ثم تأتي العاطفة وتثبت اللاتعين. يثبت العقل الكم والعاطفة تنفي الكيف. وهو نمط فكري مبني على النمط السابق من إثبات شيء ونفي صفاته مثل يستوي على العرش بلا كيف. فإذا كان الاستواء لدينا معلوما، فكيف يكون الكيف مجهولا؟ لذلك كان موضوعا للإيمان الخالص، أي هو موضوع اقتضته العاطفة ولا يستطيع العقل أمامه الحكم بشيء وإلا كان مبتدعا. هي عبارات لا تفيد شيئا. التجسيم الذي يجهله البشر إثبات للعلم وللجهل في آن واحد. وهذا نفي للعلم وتأكيد للسر، ونفي للوضوح، وإنكار لسلطان العقل.
31 (5)
صفحة غير معروفة