112
ويستشهد القدماء بالعلم الطبيعي في عدم معرفة كنه الضوء أو المغناطيس على استحالة معرفة كنه الذات وبعلم النفس على استحالة معرفة كنه النفس. أما معرفة الذات من الآثار فتلك هي الغاية من التوحيد بمعرفة الطبيعة. فالتوحيد توجه نحو الطبيعة أو فكرة موجهة للشعور نحو الطبيعة أو افتراض نظري تفسر على أساسه الظواهر الطبيعية. الوجود والكيفيات في «الله» تحيل إلى الجواهر والأعراض في الطبيعة، والسلوب والإضافة هما طريقا التنزيه والتشبيه في الحديث عن الوعي الخالص حرصا على التعالي والتقريب في نفس الوقت، وتمسكا بالمفارقة والحلول في آن واحد.
وقد أكد القدماء على ذلك أيضا لإثبات أن هذه المعارف كلها سواء الصفات السلبية (ما يستحيل على «الله») أو الصفات الإيجابية (ما يجب «لله») أو الصفات الجائزة (ما يجوز على «الله») كلها صفات تقريبية تكشف عن وقوع الشركة فيها بين الإنسان و«الله». هي كلها صفات إنسانية تقال على «الله» أو صفات «إلهية» تقال على الإنسان. ولما كان الإنسان على علم بنفسه دون غيره، فإنها تكون صفات إنسانية تقال على «الله» قياسا، عن طريق قياس الغائب على الشاهد أو إسقاطا عن طريق إسقاط ما في النفس على «الله» أو مجازا عن طريق اللغة. الإنسان عالم قادر حي، سميع بصير متكلم مريد بالحقيقة، و«الله» كذلك بالمجاز حرصا على التنزيه، وحفاظا على التعالي:
تعالى عما يصفون .
113 «الله» ليس موضوع إدراك حسي ولا إدراك شعوري نفسي ولا تصور عقلي، ومن ثم لا يمكن معرفته. ولا يمكن القول بأنها متصورة بدليل الحكم عليها بأنها غير متصورة؛ لأن الحكم بالنفي نفي للحكم وليس إثباتا له. وحتى ولو كانت متصورة نفيا فإن ذلك لا يعني أنها متصورة إيجابا. ويظل التصور الوحيد «لله» هو نفي التصور، وهو ما يعنيه التعالي أيضا في العبارة السابقة. وبالتالي يكون التصور الوحيد «لله» هو أنه غير قابل للتصور، سواء كان هذا النفي للتصور في عرف المناطقة تصورا أم غير تصور. إن معرفة وجوده شيء ومعرفة أوصافه وصفاته شيء آخر. إذ يمكن للإنسان أن يشعر بوجوده دون أن يتصوره، فالوجود سابق على المعرفة، والشيء سابق على تصوره.
114
وقد يذهب البعض درجة أكثر فينفي الوجود ذاته ويرفض اعتبار «الله» كائنا أو وجودا خالصا قائما بنفسه ويرده إلى مجرد إثبات لاسم لا إثباتا لواقع إمعانا في تحليل الشعور ومعرفة كيفية صياغات العبارات.
115
أما بالنسبة إلى جواز العلم «بالله»، فإن السؤال عن الإمكانية افتراض خالص لا يمكن الإجابة عليه إلا من خلال الواقع، والذي أعطى الإجابة بالاستحالة. ومع ذلك تستحيل إمكانية العلم «بالله» لأن «الله» لا يمكن أن يكون موضوعا في قضية حملية. «الله» طبقا للتعريف لا يحده حد، والحد لا بد له من جنس وفصل، والله ليس له جنس ولا فصل، وبالتالي استحال التعريف المنطقي.
116
صفحة غير معروفة