وقد برر القدماء ذلك برفض تكافؤ الأدلة، وبوجود دليلين أحدهما أقوى من الآخر فيبطل الدليل الضعيف أو ببطلان الدليلين معا، ولا ينفي ذلك وجود الشيء . وذلك في الحقيقة معارض بمنطق الأصوليين بقاعدة «ما لا دليل عليه يجب نفيه». كما تقوم كثير من الاستدلالات على برهان الخلف، أي نفي النقيض حتى يثبت الشيء، وذلك مثل إثبات حدود العالم بنفي قدمه.
90
وهو برهان سلبي يعتمد على شمول الحصر. فإن لم يكن حصر الاحتمالات شاملا انهدم الدليل. ونفي العكس ليس إثباتا للشيء بل نفي لضده فحسب. ولا بد للدليل أن يكون مثبتا خاصة ولو كانت هناك احتمالات أخرى لم تدخل في الحصر الأول. طبقا لقاعدة «ما لا دليل عليه يجب نفيه» فإنه إذا غاب الدليل المثبت وجب نفي الشيء. وعادة ما يكون إثبات بطلان قول الخصم ضعيفا، فدليل الحدوث لا يقضي على اعتراضات الخصم و«تفنيد مزاعم القائلين بقدم العالم».
91
كما أن اعتراضات الخصم ضد المطلوب إثباته تترك بلا رد. لقد عرف القدماء بعض الاعتراضات الأساسية ضد دليل الحدوث، ولكن سيادة الأشعرية طوت هذه الاعتراضات في حيز النسيان، فالأشعرية لا يعترض عليها لأنها وحدت نفسها بالصواب، مع أن هذه الاعتراضات هي القادرة الآن على بعث الوجدان الفكري في شعورنا القومي.
92
وهناك نقائص منطقية استدلالية أخرى في قلب عملية الاستدلال،
93
فمثلا يكون السؤال عاما مثل: ما الدليل على أن للخلق خالقا أو للعالم صانعا؟ وتكون الإجابة خاصة بتجربة التغير في الإنسان وأحواله. السؤال عن المخلوقات جميعها والإجابة عن تجربة واحدة. فهل يجوز الإجابة على سؤال عام بتجربة خاصة؟ هل يجوز على سؤال مبدأ إعطاء تجربة واقع؟ وكيف يمكن بعد ذلك التعميم والاطراد؟ وهل يثبت المبدأ بالتجربة. وإذا كان يسهل رد الأشعرية على ذلك لإنكارها صيغة العموم، فكيف يمكن مناقضة منطق الأصوليين الذي يثبت العموم؟ وإذا كان السؤال عن الأدلة على الخالق تكون الإجابة بنفي كون الإنسان خالقا! والجواب غير السؤال، السؤال عن إثبات صفة لله والجواب عن نفيها عن غيره! هذا بالإضافة إلى ما يمثل ذلك من تعذيب للذات واتهام النفس بالعجز وتعويض ذلك بإثبات القدرة للغير. كما يقوم الدليل على إثبات الصانع قبل إثبات الصنع، والأولى إثبات الصنع أولا حتى يسهل بعد ذلك طلب إقامة الدليل على الصانع. ولا يغني عن ذلك اعتماد الأشعرية على أن الجدل يقوم على التسليم بأحد الافتراضات جدلا. وفي كثير من الأحيان لا توجد حجج مقنعة عقلا، بل توجد أدلة خطابية تعتمد على استهجان العامة من تصور بناء من غير بان وكتابة من غير كاتب. وهو لجوء إلى البداهة الموجهة إلى الخصم الذي إن لم يعترف بها وصف نفسه بالجهل أمام استهزاء العامة وسخريتها من الحكيم. وهي في حقيقة الأمر تشخيص للأشياء وتركيز على الجهة الفاعلة دون العلل الصورية والمادية والغائية. والأخطر من ذلك كله انتقال الدليل من مستوى الطبيعة والكون إلى مستوى الإرادة الإنسانية وإنكار أن يكون الإنسان فاعلا كسبا أو اختراعا، وبالتالي هدم الأشعرية لذاتها. مع أنه ما لا يقدر عليه إنسان لا يعني العجز عنه على مبدأ الأشاعرة، فكيف التسليم بالعجز؟ ولا يجوز إثبات المحدث مع نفي الأحداث والإيجاد إثباتا للغائب على الشاهد على قصد وغاية. فمن أصول الأشاعرة لا يتعلق فعل المريد المختار بالقصد والغاية. والعجيب ألا يسلم الأشاعرة بالمنطق الأصولي ويعتبرون قياس الغائب على الشاهد عيبا، وهو أساس الفكر الديني كله.
94
صفحة غير معروفة