200

من العقيدة إلى الثورة (٢): التوحيد

تصانيف

90

وإذا كانت الذات هي التعبير عن المجتمع المنتصر وتركز القوة والحق كليهما في الذات المشخصة إعلانا عن ثبات المجتمع واستقراره وصلابته وفتوحاته وانتصاراته وبأسه وقوة الحاكم وسيطرته وازدهار رأس المال وتراكمه، فإنها تحولت الآن إلى بقاء الحاكم دون المحكوم وإلى بأس وقهر لفرد واحد دون انتصار أو فتح لأمة. بقيت الذات القديمة التي عبرت عن مجتمع الأنصار دون أن تتغير في مجتمع الهزيمة، فاعتمد عليها الحكام ضد الشعوب وأصبحت الذات المشخصة تعبر عن تشخيص العواطف الإنسانية ومظاهر الوجود الإنساني، وتستعمل كمشجب تعلق عليه الصفات كالشمس والنجوم أو الحاكم والبلاط أو الرئيس والوزراء أو الدائرة والمحيط أو الجوهر والأعراض أو البطل والممثلين. وقد حدث ذلك في التشبيه والتنزيه على السواء. ومنها نشأت نظرة مادية في الانفعالات لا تختلف عن التجسيم وأصبحت تعبيرا ماديا عن بيئة اجتماعية. وهي في نفس الوقت نظرة تطهيرية في الفضيلة واعتبارها خارج العالم وليست داخلة كنوع من التعمية على ما يحدث في الواقع. كما حدث في التنزيه فأصبح الخالص غطاء للمادي، والصوري تعمية عن الحسي. وتجاوز اللغة كوسيلة للتعبير، وأنكرت دور الصور الفنية كوسيلة للإيصال، وانتقلت من اللغة إلى الشيء، ومن الصور إلى الجسم تأكيدا للنظرة الشيئية كما حدث في التشبيه الحسي أو في التشبيه الصوري أي التنزيه. فإذا كان التوحيد القديم قد بدأ بالوجود في التأليه والتجسيم، ثم أصبحت ماهيته في التنزيه وإنسانيا في التشبيه، ثم مطلبا خلقيا واجتماعيا وسياسيا عند المصلحين يكون التوحيد في حقيقة الأمر وظيفة فردية واجتماعية وتاريخية يقوم بها الإنسان في دعوته للتوحيد بين الفكر والواقع بتحويل الوحي كنظام مثالي للعالم.

91

ولم يظهر تطور التوحيد من الوجود إلى الماهية إلى المطلب في علم الكلام فحسب، بل ظهر أيضا في العلوم العقلية النقلية الأخرى، وكأن كل واحد منها يمثل تصورا معينا للتوحيد كبناء رباعي لا كتطور. فالتوحيد كماهية يمثله علم الكلام بصرف النظر عن اتجاهاته. التوحيد على مستوى الماهية هو الذي بقي، خاصة في التنزيه، لأن التوحيد على مستوى الوجود انزلق إلى التأليه والتجسيم ولم يبق في العصور الأولى. ولكن حتى هذا المكسب تحول إلى خسارة عندما انقلبت الماهية إلى شخص، والصورة إلى مادة، والعقل إلى انفعال. والتوحيد كوجود تمثله علوم الحكمة بعد أن تحولت «الثيولوجيا» إلى «أنطولوجيا»، وتحول التوحيد من نظرية في الماهية إلى نظرية في الوجود، «واجب الوجود». ولكن تحول هذا المطلب أيضا إلى خسارة عندما تحول الوجود إلى شيء، فضاع منا الإحساس بالوجود ولم تبق إلا الرغبة في المادة الحسية وأصبح الله وحده هو الموجود وغيره غير موجود، هو وحده الموجود المستقل وكل ما سواه موجود تابع، حتى تحولت حياتنا كلها من الاستقلال إلى التبعية. والتوحيد كمطلب تمثله علوم التصوف بعد أن تحول التوحيد من الماهية إلى الوجود، ومن الوجود إلى المطلب، وأصبح نزوعا إنسانيا ومطلبا للكمال، يكشف عن التجربة، ويظهر كبناء للحياة الفردية والكونية. ثم تحول هذا المكسب أيضا إلى خسارة عندما أصبح المطلب مجرد انفعال ونزوع غريزي أو الوقوع في عالم التمني، وفقدنا التجربة الشعورية التي يمكن تحليلها بالعقل وصدورها عن العالم. وأخيرا التوحيد كوظيفة ظهر في علم أصول الفقه بعد أن تحول المطلب الفردي الباطني إلى وظيفة اجتماعية وسياسية، فأصبح التوحيد دفاعا عن مصالح الأمة بتحويل الشريعة إلى نظام مثالي للعالم ووصف للسلوك وتقنين للأفعال واتجاه نحو العالم وبناء الدولة. ولكن تحول هذا المكسب أيضا إلى خسارة وذلك بتقليص أصول الفقه في الفقه وضمور الوظيفة في قانون الأحوال الشخصية وتوجه التشريع ضد الطبيعة وليس نابعا منها، فوقعنا في المحرمات دون المباحات، وتحول التشريع إلى ردع وعقاب دون أخذ حقوق وأداء واجبات، وصال في الشعائر والعبادات، وأسقط تغيير الواقع والثورة على الأوضاع من الحساب. وغاب فقهاء الثورة الذين يقولون كلمة حق في وجه سلطان جائر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وينصحون في الدين، ولم يبق ظاهرا إلا فقهاء السلطان أو فقهاء الحيض والنفاس.

92

الفصل السادس: الوعي المتعين (الصفات)

أولا: أحكام الصفات

(1) مقدمة

بعد الوعي الخالص وهو الذات التي تتسم بأوصاف ست: الوجود، والعدم، والبقاء، والمخالفة للحوادث، والقياس بالنفس، والوحدانية، ينتشر هذا الوعي خارجه ويتحقق درجة أكثر ويصبح الوعي المتعين أو الشخصية الإنسانية. ويتصف بصفات سبع: العلم، والقدرة، والحياة، والسمع، والبصر، والكلام، والإرادة.

وأحكام الصفات واحدة بالرغم من تعدد الصفات. والحديث عن الصفات هو حديث عنها كلها في مسائلها العامة قبل أن يكون حديثا عن كل صفة على حدة، الواحدة تلو الأخرى. فإثبات العلم يدخل في إثبات الصفات أو نفيها أكثر من دخوله في صفة العلم. وقدم الكلام يدخل في قدم الصفات أو حدوثها أكثر من دخوله في صفة الكلام.

صفحة غير معروفة