199

من العقيدة إلى الثورة (٢): التوحيد

تصانيف

85

التوحيد ليس إقرارا نظريا، بل عملية تحقق. وليس تشخيصا لذات يمكن إثبات وجودها بالبراهين العقلية، بل عملية يقوم بها الإنسان مدى حياته بتوحيده بين نظام الوحي ونظام العالم وإقامته مدينة الله على الأرض. ولا يتم ذلك عن طريق إنشاء حكم إلهي في دولة وضعية لا نزولا من النص إلى الواقع بل بإعلاء نظام العالم تدريجيا حتى يتحد مع نظام الوحي أو بتطوير الدولة القائمة وجعلها أكثر قربا من نظام الوحي صعودا من الواقع إلى النص.

86

يظل الوحي من جانب المعارضة والرقابة على الدولة لا من جانب السلطة القائمة وتبرير قراراتها.

87

ولما كان التوحيد يحتاج إلى طرفين: الوحي كنظام مثالي للعالم والواقع الطيع لتوجيه الوحي، عملية التوحيد إذن هي تحويل الوحي من مجرد إمكانية نظرية إلى نظام للعالم. ولما كان العالم بطبيعته يتجه نحو الكمال كان الوحي هو كمال العالم وازدهار الطبيعة. ويتم التوحيد من خلال التنظيم السياسي الذي بواسطته يتم التوحيد بين نظام الوحي ونظام العالم. التوحيد يصب في المسألة السياسية، وهو الأساس في نشأة علم أصول الدين، السياسة بداية التوحيد ونهايته، منبعه ومصبه. التوحيد موضوع للتنظيم السياسي. لذلك فإن الفقهاء من أول الموحدين بتفكيرهم السياسي وإن لم يصوغوا نظرية عقلية في الصلة بين الذات والصفات كما هو الحال في علم الكلام. وظيفة التوحيد تجنيد الجماهير، وهو ما عبر عنه المتأخرون إنشائيا بامتزاج التوحيد باللحم والدم. فقد حول التوحيد القبائل العربية المتنافرة إلى أمة ثم أطلقها في التاريخ فقضت على أعظم إمبراطوريتين قديمتين، الفرس والروم، وورثتهما، وامتدت غربا وشرقا، شمالا وجنوبا، موحدة بين الشعوب ومساوية بين الأمم. وقد استطاع التوحيد من جديد تجنيد الجماهير كما حدث في جيلنا في الثورة الإسلامية في إيران وفي الجماعات الإسلامية المعاصرة في مصر وشتى أرجاء العالم الإسلامي.

88

لقد نشأ التوحيد النظري القديم كنظرية في الذات والصفات والأفعال؛ لأن التوحيد العملي كان قد تم. لم تكن هناك خطورة على الأرض وعلى الشعب، فقد كان المجتمع منتصرا، ولكن الخطورة كانت على الفكر في بيئة تداخلت فيها النظريات والعقائد وانتشرت عليها الديانات والمذاهب. فكان لا بد من قيام التوحيد كنظرية في مواجهة العقائد النظرية المضادة. قام التوحيد القديم في أذهان المتكلمين بمهمة حضارية صرفة، فقد كانت الحركة الكلامية قديما حركة حضارية. أما عملية التوحيد فقد تمت أيام البعثة الأولى في التوحيد بين الوحي ونظام العالم. لذلك لم تظهر نظرية الذات والصفات والأفعال ، بل ظهر الله من خلال الفعل والسلوك في الجهاد والاستشهاد.

89

وبعد ما نقص الجهد، وفتر العزم، ظهر التوحيد بالمعنى النظري لا من وضع شاك أو زنديق أو دساس، فالأمر متعلق بنكوص الفعل في الأمة لا بسوء نية الحساد والطاعنين والحاقدين والموتورين. وهو المعنى الذي يقصده الفقهاء بقولهم إن هذه المشكلة لم تكن مثارة في العصر الأول ولم يسأل أحد عليها.

صفحة غير معروفة