ولماذا تكون الحركة والسكون عيوبا ونقصا ويكون الثبات كمالا وشرفا؟ ولماذا يكون التضاد نقصا والاتساق والوئام كمالا؟ وهل في الطبيعة قيمة؟ هل الظواهر الطبيعية ناقصة أو كاملة، خسيسة أو شريفة؟ أليس هذا خلطا بين أحكام الواقع وأحكام القيمة؟ ويسوء الأمر أكثر فأكثر باعتبار أحدهما كمالا والآخر نقصا، الأول إيجابا والثاني سلبا، الأول وجودا والآخر عدما، فينتهي الأمر كله إلى تدمير العالم لصالح شيء آخر هو ما وراء العالم، مما يجعل إحساس الناس بالواقع معدوما، وشعورهم بالدنيا غائبا، ومما قد يوقعهم أيضا في الغيبيات والأساطير، ويجعلهم مغتربين عن العالم، يشيحون بوجوههم عنه. ولما كان المؤثر فاعلا والعالم مفعولا فيه تتحول هذه العلاقة من مستوى الطبيعة وما بعد الطبيعة إلى مستوى الاجتماع والسياسة من خلال البناء الشعوري والتصور للعالم، فتنشأ العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بين الرئيس والمرءوس، بين الأعلى والأدنى على نفس نمط العلاقة بين «الله» والعالم، أو بين القديم والحادث كما يعرضه دليل الحدوث، فتنشأ النظم التسلطية التي تقوم على القهر والسيطرة وإعطاء كل شيء إلى السلطان وحرمان الشعب من كل شيء، كما أعطى من قبل كل شيء إلى «الله» وحرم العالم من كل شيء، حتى توحد الله والسلطان في وجداننا المعاصر، والتحمت السلطة الدينية بالسلطة السياسية، وكل ذلك على حساب العالم والشعب، على حساب العلم والحرية.
ولماذا الإصرار على أن الجسم لم يتقدم المعاني، بل المعاني سابقة عليه، في حين أن العلاقة الطبيعية بين الشيء والمعنى هو أن المعنى مدرك؟ صحيح أن المعنى عقلي وليس في الشيء، ولكنه حصل بعد حصول الشيء إن كان ولا بد من القبلية والبعدية. ولماذا لا تكون المعية افتراضا معقولا مثل القبلية؟ إن المعنى يحدث بمجرد وجود الشيء، فلا شيء إلا وله معنى مصاحب بشرط فعل الإدراك وانتباه الشعور. إن القول بأن المعاني سابقة على الأجسام حتى يمكن بعد ذلك إثبات أولويتها يهدف إلى إثبات وجود «الله»، «فالله» هو المعنى السابق على الجسم، وهي مصادرة على المطلوب، وافتراض النتيجة مسلمة. والنظرة المثالية في علاقة المعنى بالشيء، سواء كان لفظا أم جسما، إنما هو تعبير عن تصور ديني مقنع، وإيمان تقليدي دفين. وتصل النظرة التدميرية للعالم إلى درجة إثبات نهاية العالم وتناهي الأعراض، وكأن «الله» لا يثبت إلا بعد تدمير العالم، وكأن بقاء العالم بالضرورة ينفي وجود «الله». إن هذا التصور للأشياء بين الأعلى والأدنى إنما يعبر عن هذه العلاقة الإيمانية التقليدية بين «الله» والعالم، وهو مناقض للتصور العلمي للأشياء الذي يجعلها على مستوى واحد، فالخلاف بين الظواهر في الدرجة لا في النوع. كما أن سؤال النشأة والمصدر والأصل يقضي على بنية الشيء، ويلغي مستقبله من أجل ماضيه مما يطبع العقلية كلها بطابع البحث عن الأصول والمصادر دون البحث عن الكائنات الحاضرة. ولماذا لا يدرك التكوين من داخل الشيء وليس من خارجه، والتفسير بالعلل القريبة أكثر علمية من التفسير بالعلل البعيدة؟ ولماذا يكون «الله» وحده هو القادر المختار؟ وأيهما أولى: البحث عن النشأة والتكوين أم الإعداد للغاية والمصير؟ صحيح أن البحث الأول عامل مساعد للبحث الثاني ولكنه ليس بديلا عنه أو ضده كما هو الحال في دليل الحدوث.
والأخطر من ذلك كله هو ما يوحي به دليل الحدوث من إثبات عجز الإنسان عن فعل شيء في العالم أو إحداث أي تغيير. وأيهما أفضل: إثبات عجز الإنسان أم قدرة الإنسان؟ صحيح أن الإنسان ليس صانع نفسه ولا صانع العالم ولا صانع ذبابة،
47
ولكن هل المقصود تعذيب النفس وردها إلى ما هو أقل منها، ثم خلاصها بإثبات قدرة الآخر واستجلاب العون منه؟ هذا بالإضافة إلى أن الدليل يثبت صفة القدرة وليس وصف الوجود. ولماذا تعذيب الذات واعتبار الإنسان عاجزا جاهلا ميتا أكثر من اعتباره فاعلا للقدرة وصاحب علم وأهل حياة؟ لماذا هذا الإقلال من شأن الذات؟ ولماذا يكون الإنسان غير قادر على فعل أي شيء أو أن يكون علة أي شيء وأن يكون غيره أقدر منه على الفعل في العالم وأن يكون علة له؟
48
لماذا يكون الفاعل المختار غير الإنسان؟ ليس المهم إثبات قدرة الإنسان على خلق الشيء بل قدرته على تغيير بنائه، فالأشياء موجودة، والإنسان قادر على تغيير بنائها الاجتماعي والسياسي، فالأعراض نوعان: الأولى خارج القدرة ولكن الثانية داخلة في نطاق القدرة. وفي حقيقة الأمر ينتهي دليل الحدوث إلى نزع قدرة الإنسان على الفعل ولا يثبت قدرة الآخر عليه. فإذا لم تثبت قدرة الإنسان فكيف يتمخض الفيل فيلد ذبابة؟ وإذا كان موضوع القدرة على الفعل تصادم قدرة الصانع مع قدرة المصنوع فتضيع قدرة المصنوع من أجل إثبات قدرة الصانع. ولما كان الصانع قد صنع كل شيء، وبالتالي فهو قادر عليه، يكون إثبات القدرة جزءا من الكل، وتحصيل حاصل، ولا يأتي بجديد، لأنه متضمن في إثبات الصنعة، والقدرة جزء منها، فضاع وجود الشيء أولا من أجل إثبات وجود «الله»، ثم ضاعت قدرة الشيء ثانيا من أجل إثبات قدرة «الله». (3) حدوث العالم
وقد يتحول دليل الحدوث من مجرد دليل لإثبات الصانع أو واجب الوجود إلى موضوع ميتافيزيقي مستقل عن حدوث العالم وقدمه ذاتا وصفات في بناء رباعي يضع احتمالات أربعة: قدم الذات والصفات، حدوث الذات والصفات، حدوث الذات وقدم الصفات، قدم الذات وحدوث الصفات. الأول اختيار الحكماء، والثاني اختيار المتكلمين خاصة الأشاعرة منهم كرد فعل على الاختيار الأول واتهام أصحابه بأنهم ملاحدة، والثالث مستحيل عقلا لاستحالة أن تكون الجواهر حادثة والأعراض قديمة بدليل الأولى، والرابع تصور الطبائعيين من المعتزلة، وهو أقرب إلى التصور الطبيعي الذي يجعل الجواهر قديمة ثم تظهر فيها الصفات عن طريق الطفرة أو الكمون فتبدو حادثة بمعنى التحقق من القوة إلى الفعل.
49
وقد ظهر الموضوع من قبل نظرا لأهميته في نظرية الوجود، سواء في «ميتافيزيقا الوجود» أي «الأمور الاعتبارية» في مفهومي القدم والحدوث أو في «أنطولوجيا الوجود» في «الجواهر» في عوارض الأجسام. ولما كان كل فريق يقوم بإبطال قول الخصم ثم بإثبات قوله الخاص، فيقوم أنصار الحدوث بإبطال قدم العالم ثم إثبات حدوثه كما يقوم أنصار القدم بإيراد الشبهات على حدوث العالم كي يثبت قدمه.
صفحة غير معروفة