وقد يصل الأمر بالإمام أو بالداعية النبي إلى حد الألوهية، فيصبح إلها لا فرق بين المرسل والمرسل إليه. وتتبادل المواقف بين الإله والإمام النبي؛ نظرا لسيطرة النبوة الرأسية على النبوة الأفقية؛ طلبا للقوة في مواجهة الخصوم، وطلبا للطاعة من الناس. فلا تهم الرسالة؛ أي النبوة الأفقية، بل يهم الخروج على مجتمع السيطرة وتجنيد الناس. وقد لا يدعي الإمام النبي بالضرورة الألوهية؛ إذ يفصل بين نفسه كإمام أو كداعية وبين الله، حينئذ قد يكتفي بأن تكون علاقته بالله علاقة حب ومعرفة، وليست علاقة اتحاد أو حلول. وإن رفع الإمام النبي إلى مرتبة الألوهية لتقابل خفض أعدائه إلى مرتبة الشيطانية أو الجنية. كلها حالات نفسية للرفع والخفض، للإيجاب والسلب، للإثبات والنفي.
8
وإذا لم يكن الداعية نبيا فهو على الأقل شريك في النبوة أثناء حياة النبي، ووريثها بعد مماته.
9
وإن لم يكن شريكا فهو على الأقل وصى للنبي، وقد يكون الوصي أحيانا أكثر أهمية من النبي؛ فالنبي أذاع الكلمة وبلغها، ولكن الوصي هو الذي يفسرها ويعطيها معناها ويكشف مخبأها. النبي بلا وصي صوت في الهواء، أو شكل على ورق، بل قد تتجاوز نبوة الداعية النبوة الأصلية، وتعطي علما لم تعطه الأولى.
10
وقد يبز الإمام أو الداعية النبي ذاته في العلم، فيعلم ما لا يعلمه بعد أن ورث علمه من النبي أولا، ثم فاقه وزاد عليه علما وعمقا وفهما، ويتحول الرسول إلى مجرد كاتب يعلم اللغات، في حين أن العلم الحي عند الإمام؛ وبالتالي تكون نسبة الرسول للإمام نسبة الأمي للعالم. وتتجاوز وظيفة الداعية المعرفية المعرفة العادية إلى المعرفة عن طريق الإلهام، وهي في الغالب المعرفة الصوفية. تنبع المعرفة في قلب الإمام وتصدر الحكمة منه، كما يعطي الداعية لنفسه الحق في معرفة الغيب ، وهي المعرفة التي لا يعملها أحد حتى الأنبياء، بل إنه ليس في حاجة إلى نبوة؛ لأنه الله، والله يعلم، وعلمه سابق على النبوة. ويكون الداعية قادرا على فعل المعجزات ما دام مؤيدا بالنبوة؛ نظرا لالتصاق النبوة بالمعجزة، ولشدة التوتر النفسي الذي يجعل الإنسان قادرا على الإتيان بالأفعال غير المتوقعة، حقيقة أو وهما.
11
والحقيقة أن اعتبار الإمام نبيا تعميم للنبوة، في حين أن النبوة واقعة فريدة لا تتكرر. النبي هو وسيلة الاتصال بين نبع الوحي والآخرين، وسيلة واحدة خاصة، في حين أن وظيفة الإمام وظيفة عملية خالصة، وليست نظرية كوظيفة النبوة، تنحصر في تطبيق الوحي، وتحويله إلى نظام للجماعة؛ فإذا كانت وظيفة النبوة نظرية وعملية فإن وظيفة الإمام عملية خالصة، ولا تتجاوز الجانب النظري إلا بالاجتهاد في الفروع. تتمثل خطورة الإمام النبي أو الداعية النبي في فتح الباب لظهور الأدعياء والمتنبين والمجانين، وكل من لديه إحساس بالاضطهاد، أو كل من لديه إحساس بأنه مختار مخلص صاحب رسالة. وكثيرا ما يحدث ذلك في المجتمعات التي تعتقد بالإمامة وبالنبوة، كما تتمثل أيضا في تحويل الإمامة من الوظيفة العملية إلى الوظيفة النظرية، وكثرة التفسيرات الخيالية للوحي، وتصريف الطاقة البشرية في نظريات عن الحياة والكون والإنسان يغلب عليها طابع الإشراق؛ فيضعف العقل، ويعود إلى ما قبل اكتمال النبوة، ناقصا في حاجة إلى عون؛ وتضعف الإرادة، وتعود أيضا إلى ما قبل اكتمال النبوة، ناقصة في حاجة إلى معين. والحقيقة أن ادعاء النبوة يقوم على أسس نفسية في مجتمع الاضطهاد وفي القيادة المضطهدة، سواء ادعاها القائد عن سوء نية حتى تتم له السيطرة على الجماعة، أو بصدق اعتقاد. فادعاء النبوة في كلتا الحالتين وسيلة يصطنعها القائد لإحداث السمع والطاعة، وليس تحولا طبيعيا من الإحساس بالرسالة إلى سماع الهاتف. وقد نشأ الأنبياء الدعاة أو الأئمة الأنبياء في مناطق الكوفة وجوها النفسي؛ جو الاستشهاد، والذي يبعد عن جو البصرة وبغداد الذي يغلب عليه العقل والمنطق. وقد يستعير الإمام أو الداعية المتنبي بعض الصور والأفعال النمطية من النبوات السابقة؛ فقد يتمثل المدعي للنبوة حياة النبي وسيرته، فيكون حرفيا مثله بائع حنطة، أو تبان أسوة بباقي الأنبياء الذين كانوا رعاة ونجارين، وحتى تبدو النبوة في أضعف الناس وأبسطهم وأبعدهم عن الهرج والهالة والأضواء «يوضع سره في أضعف خلقه».
12
صفحة غير معروفة