24
انتشر الإسلام بسرعة لم يعهد لها نظير في التاريخ؛ لحاجة الأمم إلى الإصلاح، وتعبير الإسلام عن حاجات الجزيرة العربية للوحدة والعدالة، وحاجة العالم القديم إلى مثل جديدة قادرة على إعادة بناء نظمه بعد تهاوي الإمبراطوريتين القديمتين، نتيجة للحروب المتبادلة، وبسبب السيطرة والقهر والتدمير المتبادل. لقد ثبتت الأديان مصالح الناس، وكانت دافعا على تقدمهم وبقائهم في التاريخ، وأصبحت التجارب الإنسانية كلها رصيدا لرقي البشرية، وتحولت الشعائر والطقوس من رموز في الديانات القديمة وحركات صورية، إلى أفعال للأمة؛ للفرد وللجماعة، إلى إصلاح في الأرض ومواجهة الإفساد فيها، إلى أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وحفاظ على وحدة الأمة، ومنع للفتن والشقاق والحروب.
ومع ذلك فلم تسلم الحركات الإصلاحية الحديثة من بعض النقائص، بالرغم من تركيزها على دور النبوة في التاريخ كعامل للتطور الإنساني والرقي البشري. فليست النبوة الآن في حاجة إلى إثبات؛ فلا أحد ينكر النبوات، سواء في مراحلها أو في المرحلة الأخيرة، والتحدي الأعظم اليوم هو في تخلف الأمة، التي غاية الوحي فيها هو تحقيق التقدم في مقابل أمم توقفت عند مراحل الوحي السابقة، اليهود والنصارى، وأنكرت خاتم النبوة، ومع ذلك تقدمت اعتمادا على العقل والطبيعة، وممارسة لحرية الإرادة، وإثباتا لحقوق الإنسان والمجتمع. التحدي الآن هو الإجابة على الاعتراض المشهور؛ كيف تخلف المسلمون وتقدم غيرهم؟ أو هو الفرق بين الإسلام والمسلمين وكأنهما نقيضان. لقد عرف الغرب الإنسان ووجوده في التاريخ، وهو لب علم أصول الدين في بابيه الرئيسيين؛ العقليات والسمعيات. ما زالت الحركة الإصلاحية الحديثة في حاجة إلى مزيد من الأحكام؛ التركيز على الرسالة دون الشخص، وإعادة اكتشاف الإنسان والتاريخ يتجاوز الأسلوب الأدبي والطرق الخطابية، والتحول الجذري من الأشعرية إلى الاعتزال، ثم من الاعتزال إلى واقع المسلمين؛ حتى لا يظل سوء توزيع ثرواتهم مؤسسا على التفاوت في الرزق بقدر من الله، ولا يبقى للإنسان إلا الإحسان لأخيه الإنسان.
25 (3) النسخ في آخر مرحلة
ويمتد موضوع النسخ من تطور الوحي وعلاقة كل مرحلة سابقة بمرحلة لاحقة، إلى آخر مرحلة وتطورها على مدى ثلاث وعشرين سنة، منذ بداية الوحي حتى آخره. فإذا كان النسخ الأول بين المراحل هو النسخ الخارجي، فإن النسخ داخل آخر مرحلة يكون هو النسخ الداخلي. غاية النسخ بين المراحل هو إحداث تقدم في البشرية، بينما غاية النسخ في آخر مرحلة هو الإسراع في التطور داخل مجتمع واحد، وفي وعي بشري محدد؛ فقد أصبح الإسراع في التطور من أجل اللحاق بالبناء ضروريا، لدرجة أن يحدث النسخ في مرحلة واحدة؛ مما يدل على سرعة التغير والتطور في المرحلة الأخيرة، كالعداء الذي يسرع في آخر الخطى لينال السبق والفوز. والنسخ في المرحلة الأخيرة موضوع رئيسي في علم الأصول بشقيه، علم أصول الدين وعلم أصول الفقه، في الحديث عن الأدلة الشرعية الأربعة؛ الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، وفي الحديث عن الدليل الأول خاصة، كما ظهر في موضوع التعادل والتراجيح لحل مشكلة تعارض النصوص، فلربما كان أحدهما ناسخا والآخر منسوخا، بل إنه يكون موضوعا مستقلا باسم علم الناسخ والمنسوخ في علوم القرآن، أو كباب في علم أصول الفقه فيما يتعلق بالأخبار، إلا أن للفرق الكلامية عدة آراء فيه، ولكن النسخ هنا مستمد من مادة علم أصول الدين وحده نظرا للتمايز بين العلوم.
والنسخ في آخر مرحلة من مراحل تطور النبوة ليس فقط جائزا، بل هو واقع بالفعل. فهو جائز إسراعا في التطور، وتكييفا للشرائع طبقا لها. وهو واقع بالفعل، يرصده علماء النسخ كشرط لاستنباط الأحكام.
26
ومع ذلك فقد يتم إنكار النسخ إلى أنه «البداء»؛ أي إن الله يبدو له شيء ثم يبدو له شيء آخر، فيتغير علمه وتتغير إرادته، وهو ما لا يجوز على الله. وتغير العلم يعني الجهل، وتغير الإرادة تعني الخديعة، وكلاهما ضد الحسن والقبح العقليين، وضد مصالح الناس؛ قلب الحق باطلا والباطل حقا.
27
والحقيقة أن البداء ليس مشكلة موجودة في الواقع، بل هو وضع لمشكلة المعرفة الإنسانية، مشكلة المظهر والحقيقة. هل العلم مطابق للمظهر أم للحقيقة؟ ولما كان العلم مدفوعا إلى حد الإطلاق بدافع عواطف التأليه، فإنه يكون بطبيعة الحال مطابقا للواقع وللحقيقة، سواء عن وعي وهو تطور العلم بناء على اكتشاف واقع جديد، أو عن لا وعي كما يحدث في الإدراك الخاطئ. فإذا ثبت العلم متغيرا تكون الصفات حادثة، والحدوث في الصفات أقل شرفا من القدم. النسخ أمر شرعي يتعلق بأفعال العباد، وليس بصفات الله، مثل العلم أو القدرة؛ لذلك كان موقف أصول الفقه أسلم بالحديث عن النسخ حديثا وضعيا صرفا؛ أي التطور في الأحكام، لا شأن له بالتغير أو الحدوث في صفات الله. البداء ليس مشكلة في الصفات وافتراض حدوث تغير في العلم، بل هو مشكلة إنسانية خالصة تتعلق بصلة الفكر بالواقع ، كما هو معروف في تاريخ العلم، وفي التجارب الإنسانية القائمة على المحاولة والخطأ. فإنكار البداء إنما يبقي في الحقيقة التنزيه، ولا شأن له بالنسخ، أو بآثار هذا الإنكار على النسخ؛ أي على تطور الحياة الإنسانية. إنكار البداء دفاع عن العلم الإلهي ضد الجهل، ودفاع عن الله وعلمه الضروري غير المكتسب أو المستفاد، دفاع عن العلم الاستنباطي، واعتبار العلم الاستقرائي حطة في شأن العلم الإلهي، دفاع عن العلم الثابت؛ لأن العلم المتجدد تغير ونقص.
صفحة غير معروفة